(هل الفيلم هو القصة فقط؟)

عند الحديث عن الأفلام أو مناقشة محتواها نسمع كثيراً كلمة “لا تحرق علي الفيلم” بمعنى أخبرني هل كان الفيلم جيداً أم لا؟ لكن لا تخبرني بقصة الفيلم.. مما جعل المشاهد العربي بالخصوص ينظر للأفلام كقصة مجردة ولا شيء غير ذلك، وأخص العربي لأننا نعشق الحكاية في كل شيء، منذ “ألف ليلة وليلة” و”كليلة ودمنه” وغيرها من كتب القصص والتي لا سقف للخيال فيها، فالعربي مولع بالقصة وينتظر دائماً أن تكون هناك عبرة يستخلصها في نهاية هذه القصة، وبالرغم من أننا استبدلنا الحكواتي بعد أزمان بالأفلام والمسلسلات، إلا أننا ما زلنا نطالب بذات الدور الذي يقوم به الحكواتي وهو السرد، ليسافر بنا عبر الآفاق ونتخيل كل مالا يمكننا رؤيته، ثم جاءت الرواية المكتوبة لتكون الرافد الأهم في الصناعة السينمائية والتلفزيونية، “القصة”. ونجد الكثير من الروايات الذائعة الصيت، تم اقتباسها سينمائياً وتلفزيونياً، ومنها ما فاق نجاحه نجاح الحكاية الورقية أو العكس، أعود للسؤال الذي طرحته في البداية .. هل الفيلم السينمائي هو القصة والقصة فقط ؟! أم أن هناك ما يرفع قيمة الفيلم وجودته في حال كانت القصة مكررة وعادية؟ بالنسبة للروائي الجيد فهو يصنع من القصة العادية شيئاً يشبه امتداداً شعورياً يحيط بك كأخطبوط من كل جهاتك فتعشر لوهلة وكأنك جزء أصيل من هذه الحكاية، بل ربما شعرت وكأنك البطل وكأن الكلام كله وحتى الصمت إنما يدور على لسانك أنت، إضافة إلى جودة الحبكة والصعود الذكي بالأحداث ثم قفل القصة بطريقة تترك أثرها لدى القارئ أما عن طريق الصدمة والمفاجأة، أو عن طريق ما يسمى بالنهايات المفتوحة. أما في السينما فالأمر مختلف تماماً فالفيلم ليس القصة فقط، بل هناك الكثير من التفاصيل التي تخلق من القصة العادية فيلماً عظيماً، مثلاً الشخصيات ذات العمق والتي تتطور بشكل واضح طوال الفيلم، والأحداث المترابطة المشوقة والتي تدفع القصة للأمام وقبل ذلك كله الإخراج المتميز، ورؤية المخرج وقدرته على ترجمة النص إلى صور وفيديوهات مؤثرة، وإدارة المشاهد ونظيمها بشكل يجعلها متدفقة ومؤثرة، والأداء التمثيلي المقنع والذي يجب أن يكون طبيعيًا ومؤثرًا في ذات الوقت، والكيمياء بين الممثلين والتفاعل الطبيعي بين الشخصيات والذي يعزز من مصداقية القصة، التصوير السينمائي والإضاءة وإطار استخدام الإضاءة واللقطات بشكل فني لتعزيز الجو العام للفيلم، وحركة الكاميرا واستخدامها بطرق مبتكرة لإضافة عمق للصورة، ولا ننسى الموسيقى التصويرية والتي تضيف بعدًا عاطفيًا للمشاهد، واستخدامها في اللحظات المناسبة ليكون التأثير أعمق، وهناك المونتاج السلس والذي يحافظ على إيقاع الفيلم دون ملل أو تسرع، والانتقال بين المشاهد بصورة طبيعية مما يرفع من جودة تجربة المشاهدة، وكذلك التأثيرات البصرية والصوتية عالية الجودة تزيد من مصداقية الفيلم، والعنصر الأهم في تحويل الفكرة من مجرد حبر على الورق إلى عمل مرئي عظيم يخوض المنافسات ويحصد الجوائز هو الإنتاج بميزانية تحقيق رؤية الفيلم، وكذلك التسويق والقيام بحملات تسويقية فعالة تجذب الجمهور وفهم الجمهور المستهدف وتلبية احتياجاته، و المشاركة في المهرجانات. نجاح الفيلم السينمائي ليس نتيجة لعنصر واحد فقط، بل هو مزيج من عدة عوامل تعمل معًا بشكل متناغم. الفيلم الناجح هو الذي يتمكن من تحقيق التوازن بين الجوانب الفنية والتجارية، ويترك أثرًا طويل الأمد في ذاكرة المشاهد، فالفيلم ليس الحكاية التي ستحترق حين تحكيها لأحدهم إنما يشبه الفيلم الجيد ثقباً أسود سيبتلعك وينقلك إلى زمان ومكان آخر بشكل مؤقت، وأي خلل في المنظومة السابقة سيجعلك تلغي الرحلة وتفضل العودة إلى مقعدك أو كنبتك لتلعن الساعة التي قررت فيها أن تمنح وقتك لفيلم كهذا، فالسينما أشبه ما تكون بجولة فاخرة داخل الحكاية بأدوات سحرية ولا تحتاج بالضرورة أن تشبع رغبتك في الانبهار بالقصة وندرتها أو انتظار النهاية التي سترضيك، لكنك ستحصل على متعتك السمعية والبصرية طوال الرحلة وهذا ما يجعل من الأفلام وسيلة جيدة لنخر العقل الإنساني والوصول إليه والسيطرة عليه عبر بعض الأفلام ذات الغايات السياسية أو الرأسمالية، أو إيصالك إلى أقصى الحكاية وأقصى الإنسانية وملامستك وجدانياً، أو قد تكون وسيلة معرفية ممتازة حين يكون الموضوع تاريخياً أو توثيقياً، ونحن في زمن الصورة ولا غنى لنا عنها، لكن تذكر دائماً أن الأفلام ليست القصة التي يمكن “حرقها عليك” فقط .. بل هي أكثر من ذلك بكثير.