يسرقنا الأمل ليعيدنا إلى ذواتنا.

في ظلمة البئر و بعد جفاف أرضه كان أنْدرْيه مستلقيًا في القاع، فقد اتخده مسكنا بعدما انزلق فيه قبل زمن بعيد و صارع قدره مرارًا حتى استسلم إلى أن احبه أو اعتاد عليه، لقد عاش و حيا في تلك البقعة، كشف أحدهم فجأة عن غطاء هذا البئر المظلم، و أعان الضوء على أن ينساب إلى جسد التائه المعتدّ بضياعه، ثم و قبل أن يعود فيطبق عليه، أطل عليه بوجهه المليح، دون أن يتعنى تعبيرًا، نظر إلى الخارج و أعاد النظر إلى عمق البئر حتى يتأكد مما رأى! انه ذلك الجسد الضئيل الذي لم يكن يرقب إلا أن يتحلل فينسى للأبد، ولم يأمل بشيء. لكن هذا الرجل العابر سحب حبلا متينًا كان قد عُقدَ على جذع شجرة متيبسة بالقرب من هذا البئر الذي قد جف منذ سنين، فرماه إلى القاع و أبصر إلى الروح ذات الحصافة التي قضت عمرها هاهنا ترقص حينًا و تستلقي لتهدهد خوفها حينا، و نادى بصوٍتٍ منخفض لكنه ثابت و مستقر: مني إليك، خذه، لم يأبه أندريه بذلك الصوت فلم يتكلفّ النظر إلى صاحبه . مضت دقائق على صمت مطبق، آملاً أنْدرْيه أن يعود هذا الغريب ليعزل النور عن منزله أو أن تغيب الشمس فيعود ليحتضن ظلام الكون بين جنباته مرت الدقائق طويلة فنعست عينا أنَْدرْيه و قاربت على أن تغفو و بين النوم العميق و الصحو رأى طيف خيالٍ كان يستحضره في طفولته و يمرحان معًا، كان يحدث نفسه عنه كثيرًا و كان قد صنع منه شخصًا لا يطال، ذكي و رزين و ذو بهاء و خفيف الروح، كانا يتحدثان و يحلمان ويركضان معًا، أفاق من هذا الحلم القصير العارض، لقى ابتسامته قد ارتسمت، رفع نظره إلى الأعلى ليعيد ذهنه إلى الواقع، فوجد رفيق الرؤيا هو من كان واقفًا عند فوهة البئر و قد هم بانزال الحبل و هو يصرخ: يجب أن تأتي، كلانا انتظر الآخر طويلاً! تفتحت عينا أنْدرْيه و اتسعت ابتسامته و هو يهم بالجلوس ثم امسك بشدة على ذلك الحبل المتين متأهبًا لأن يحتضن عالمًا مشبعًا بالحياة طالما حلم به و أحبه. راح هذا الجسد الضئيل يصعد شيئاً فشيئاً و صوتاً داخله يهزئه و روحًا ترقص و قلبًا عاد ليضخ دمًا، ابتسامة تتسع و عينان أجادت كيف تلتمعان! ثم و ما أن اقترب حتى امتلأ حبًا مضاعفًا و دهشة مضاعفة و آمن بخياله و أحب عقله و شكر نفسه على إخلاصها و أحب الود الذي حمله منذ أن كان طفلا، هنأ نفسه على اختيارها، و هنأته نفسه أيضاً و اصبحت كل أجزائه على وفاق معه، اقترب مرحبًا بعالم لم يعتده لكنه كان جاهزًا لأن يعيشه، الحب سيبدد خوفه و سيرمم وجعه و سيحقق مأمله. سيعيده إلى طفولته، إلى تلك الذكرى فيكبر من جديد، و يتعلم على علمه و يحب فوق حبه و يحلم أكثر مما حلم و يتهذب و يضحك أكثر مما فعل . وصل أخيرًا.. و قال له صوت الرجل الواقف بانتظاره: ثبت يدك هنا و تسلق بساقيك حتى استطيع أن أحملك نحوي كان ينظر اليه عندما كان يتحدث، نظر إليه ببريق غير معهود بطمأنينة مفقودة أو ربما كانت وليدة تلك اللحظة هم بفعل ما وجّه إليه: اطلق الحبل من يد واحدة ليثبتها على طرف الجدار ثم راح يجر نفسه لكن من كان ينتظره أغلق البئر على يده فسقط من أعلى.. لم يمت. عاد يواجه جرحه بعدما اندمل، وعاد يدثر نفسه و يصم أذنيه عن الصوت الذي نبهه فعارضه و راح يدور و يدور و يدور حول نفسه فيعود ليحتضنها.