
كانوا مجموعة من الأصدقاء، مُتقاربين في الأفكار، ومُختلفين في الأعمار والأعمال، يجمعهم حُبّ “البَرّ”؛ حيث الهدوء وجمال الطبيعة والهواء النقي، والبٌعد عن ضجيج المُدن وتلوّث جوّها، فإذا طاب البَرّ وكثُر العشب خرجوا يتمتّعون بمناظره الخلّابة وروائحه الزكيّة. ويدور حديث هؤلاء الأصدقاء غالباً حول أولئك الرّجال الذين كانوا في الماضي يجوبون أطراف الأرض على الإبل، وتارة على أرجُلهم. إنهم “العُقَيليّون”، الذين يُشير الشيخ “حمد الجاسر” رحمه الله إلى نُفوذهم قديماً وانتشار شُهرَتهم بالمُتاجرة بالخيل والإبل، يذهبون إلى “الشّام” و”مصر”، ومع طول الزمن ينضوي في كنَفهم ويسير في حمايتهم، كلّ من يتّخذ ذلك العمل مهنة له، فيشمل اسم “عقيل” من انضمّ إليهم وشاركهم في ذلك العمل. ونعود إلى مجموعة الأصدقاء، الذين كان بعضهم “عُقيليّاٌ” في فترة مُبكّرة من حياتهم؛ وهُم: الشيخ عبدالعزيز المسند، وراشد العبدالله الرقيبة، وعبدالعزيز وعبدالله الحميد، وإبراهيم النصّار، وعبدالعزيز العبود، وعبدالكريم البرّاك، وحمد الحمد.. وغيرهم، رحم الله من توفّي منهم، وأطال في عُمر الأحياء على طاعته. لقد قرّر الأصدقاء أن يرتحلوا على ظُهور الإبل، للوقوف على معالم كادت تندرس، ولتجديد العهد بديارٍ وموارد ماءٍ وطُرقٍ، كان لها ذِكرٌ في التاريخ، ولم يبقَ منها سوى ما أُثبت في بعض الكُتب، وغالبه من أُناس لم يقفوا عليه بأنفُسهم، وإنما نقلوه عن غيرهم. لقد نُشر خبرٌ عن هذه الرحلة المُزمع تنفيذها في الصحافة، قبل القيام بها وبدون إعلان أو حديث عنها، فكان وقعُه غريباً عند بعض الناس، إذ كيف تتمّ مثل هذه الرحلة على ظهور الإبل، في وقتٍ نعِم الناس فيه وركنوا إلى الراحة، واعتادوا ركوب السيارات الفارهة والطائرات السريعة والجلوس على الفُرش الناعمة. ووثّق هذه الرحلة الشيخ عبدالعزيز المسند في كتابه “سفينة الصحراء – رحلة فريدة على الإبل في القرن الخامس عشر الهجري”، وتحدّث عن يوميّاتهم بشكلٍ مُفصّل، ووصف الأماكن التي مرّوا بها، وما يتعلّق بها من أحداث تاريخية. بدأت الرحلة من شمال مدينة “بريدة” في شهر ربيع الثاني من عام 1401 هجرية، الموافق فبراير 1981 ميلادية، وكان زادهم التمر و”قُرص الجمر” واسمه القديم “خُبز المَلّه”: وهو قُرصٌ من طحين البُرّ الصافي، يُفضّله المُسافرون لسهولة إعداده للأكل، وبقائه أيّاماً لا يتغيّر. وانطلقت قافلة الإبل في اليوم الأول من المخيّم في “الدغمانية”، التي تبعد عن بريدة ستّين كيلاً، وذلك في الساعة الثامنة صباحاً، واستمرّ سيرها سِراعاً، ودِرهاماً: أي غارة مُسرعة بالإبل، ووسطاً: أي مشياً مُعتاداً. وفي الساعة الواحدة ظُهراً، بعد توقّفٍ تناولوا فيه قليلاً من التمر والقهوة، أناخوا للغداء في روضة تبعد عن بريدة تسعين كيلاً، ثم استأنفوا السير وكان سيرهم مرواحاً هادئاً، حتى مرّوا بمنطقةٍ تُسمّى “المَدرج”: لتدرّج أرضه وسَيلِه، وهذا المكان يبعد عن بريدة مائة وعشرين كيلاً، وعلى بُعد مسافة قصيرة أناخوا ركائبهم وقضوا ليلتهم هناك. وفي اليوم التالي، ما كادت الساعة تصل السادسة والنصف قبل طلوع الشمس، حتى انطلقوا مُتوجّهين إلى الشمال، وكانت ريحٌ باردة شديدة “نسريّة” تهُبّ في وجوههم، وهُم مُتلثّمين “بشُمغهم”، وكان منظرهم في تلك الساعات ، كما قال الشاعر “دغيّم الظلماوي” في قصيدته: يا كليب شبّ النار يا كليب شبّه عليك شبّه والحطب لك يجابي علَيّ أنا يا كليب هيله وحَبّه وعليك تقليط الدّلال العْذابي وادغَث لها يا كليب من سمر خبّه وشبّه إلى منّه غفا كلّ هابي باغٍ إلى شبّيتها واشلهبّه تجذب لنا رَبعٍ سراةٍ غيابي بنسريّةٍ يا كليب صَلفٍ مَهَبّه الى هبّ نسناسه تقل سمّ دابي وبالرغم من ذلك سار الركب في هذا اليوم ثماني ساعات صافية، دون الوقفات، وهُم نشيطون مسرورون يتجاذبون أطراف الحديث، مع أن بعضهم لم يركب الإبل في حياته من قبل هذه الرحلة، وبعضم لم يُمارس الرياضة بل يقضي جُلّ وقته في المكتب أو السيارة. وهكذا استمرّ الرفاق على هذا المنوال في الأيام التالية، ولعل من المواقف المؤثّرة خلال هذه الرحلة، ذلك الموقف الرهيب، حينما يندفع أحد الرفاق “العُقّيليين” فيجثو على رُكَبِه، وتنهمر دموعه غزيرة، فإذا بلّلتْ ذاك المكان، قال: “إن هذا موضِعٌ تركتُ فيه علامة كذا، أو دُفن فيه صاحبي فٌلان عندما نزلنا هُنا..”، وذلك موقفٌ باهتٌ نادرٌ، لا تستطيع وصفه الأقلام. وتابع الرّكب المسير، إلى أن وصلوا بعد أسبوعين إلى منطقة مستوية الأرض، تغيّرت طبيعتها من الرمال إلى “الحزوم”: وهي الأرض الصلبة، فلبثوا في مسيرهم في غارة مُستمرّة، من الساعة الحادية عشرة صباحاً إلى الرابعة مساءً، حيث مالوا جهة اليمين واختاروا مكاناً لنزولهم، يبعد عن مدينة “سكاكا” في منطقة “الجوف” خمسة أميال. لقد أمضوا أربعة عشر يوماً، مليئة بالسرور والجِدّ وتلاقح الأفكار والهدوء التّام، والبُعد عن الحياة المدنية الناعمة. ومن الطريف أن الرّفاق لم يكونوا يتصوّرون أنهم سينزعجون من السيارات، بعد هذه الرحلة الطويلة على ظهور الإبل، فحينما ركبوا السيارات لأول مرّة من مكانهم الذي أناخوا فيه الإبل، متوجّهين إلى سكاكا، استغربوا حركة السيارات وضجيجها وكأنهم لم يعرفوها من قبل، فقد تعوّدتْ حواسّهم وأبدانهم على الصفاء وحركة الإبل، وعدم وجود حائلٍ بينهم وبين الفضاء المفتوح. وعندما دخلوا سكاكا تلك الليلة، لقيهم أمير الجوف “عبدالرحمن السديري” وبعض الأصدقاء وحاولوا أن يُقنعوهم بالمبيت لديهم، فأصرّ الرّفاق على المبيت عند ركائبهم خارج البلد. وعندما أشرق الصبح، أخذ الشيخ عبدالعزيز المسند طريقه إلى المطار ليُدرك رحلةً إلى الرياض، بينما صحِب الرفقة إبلَهم محمولة على شاحنات كبيرة؛ رِفقاً بها بعد سيرها هذه المُدّة في الصحراء، وقطعِها ما يٌقارب 700 كيلاً، عائدين إلى “القصيم”. وكانت لحظة الوداع صعبة جِدّاً، إذ حاول رفاق السفر إقناع الشيخ بالعودة معهم، ولكن الدوام لله تعالى، وكُلّ اجتماع سينتهي بفراق، إلا المؤمنين فإنهم يجتمعون في دار النعيم.