التشكيلي لؤي كيالي:

عندما يصبح الألمُ فناً والمهمَّشون أبطالاً.

لؤي كيالي ليس مجرد رسامٍ سوري ، بل هو قصيدةٌ بشريةٌ كُتِبَت بفرشاةٍ وألوان. كلُّ لوحةٍ من لوحاته ليست عملاً فنياً فحسب، بل اعترافٌ علنيٌّ بالألم، وصياغةٌ للجمال من قلب المأساة. إنه الفنان الذي حوَّل ضعفَه الإنساني إلى قوةٍ فنيّة، جاعلاً من حساسيته المفرطة سلاحاً لمواجهة عالمٍ قاسٍ.   وُلد لؤي كيالي في حلب، المدينة السورية العتيقة التي تنضح بتاريخ الفنون. كانت طفولته بداية لمسيرةٍ فنيّةٍ استثنائية، بدأت برسم أولى خطواته على الورق عام1945، ثم انفجرت موهبته في معرض مدرسي عام 1952، ليقرر بعدها ترك دراسة الحقوق والانطلاق نحو عالم الفن، كأنه يُعلن أنَّ القوانين الوحيدة التي يؤمن بها هي قوانين اللون والظل.   أُوفدَ إلى إيطاليا لدراسة الفن، فتحوَّل من طالبٍ إلى ظاهرة. نال الجائزة الأولى في مسابقة سيسيليا، والميدالية الذهبية في رافينا، وشارك في بينالي البندقية ممثلاً سوريا إلى جانب فاتح المدرس. لكنّ أبرز محطاته كانت معارضه الشخصية التي أقامها بين روما ودمشق وميلانو، حيث قدّم لوحاتٍ زيتيةً تختزل مأساة الإنسان بلمسةٍ واقعيةٍ حزينة، كأنه يرسم بصمتِ الأحياء الفقيرة وأنفاسهم المثقلة بالحنين.   هذا ما أعتبره فريداً، فهو لم يرسم العظمة، بل رفضها واختار أن يكون صوتاً للبسطاء المُهمَّشين في زمنٍ كان الفنانون فيه يلهثون وراء تمجيد السلطة أو تقليد المدارس الأوروبية.  “صياد السمك في لوحاته هو رمزٌ للصمود في عالمٍ يطحن الإنسان كحبة قمح.   جسَّد لؤي التناقض الإنساني؛ فقد جمع بين الواقعية القاسية والجمال الشاعري، مثل لوحة “امرأة حامل” بملامح منهكة، لكنها تحمل في عينيها بريق حياةٍ جديدة. هذا التناقض هو جوهرُ الإنسان: ضعيفٌ وقوي، مهزومٌ ومنتصر، في آنٍ واحد.   لم يكن كيالي فنانًا عاديًا، بل كان شاعرًا يرسم بالفرشاة. في معرضه “في سبيل القضية”، حوّل الفحمَ إلى قصائدَ مرئيةٍ عن الفقر والتشرّد. لكنّ النقدَ اللاذعَ الذي تعرّض له من قبل مَن وصفهم بـ”مدّعي الفن” دفعَه إلى تمزيق لوحاته. هذه الهشاشة جعلته ينكفئ على نفسه كطائرٍ جريحٍ في منزله بدمشق، غارقًا في اكتئابٍ أعقبَ وفاة والده. حاول العودة إلى التدريس في كلية الفنون الجميلة، لكنّ شظايا الألم ظلت تنزف في لوحاته حتى أُحيلَ إلى التقاعد المبكر.   رغم ذلك، لم تنطفئ شعلته. عاد ليرسم من جديدٍ في حلب، مسقط رأسه، مُقدّمًا أعمالًا كـالطبيعة الصامتة والبورتريهات التي تظهر الوجوهَ وكأنها تحمل أسرارَ قرون. في بيروت ودمشق، أقام معارضًا كانت صرخةً صامتةً ضدّ القسوة، قبل أن يرحل عام 1978، تاركًا وراءه إرثًا يقول:”الجمالُ الحقيقيّ يُولد من رحم المعاناة”.    رحلَ لؤي كيالي جسديًا، لكنّ لوحاته بقيت كسيرة ذاتيةٍ جماعيةٍ للإنسان العربي، تُحاكي بألوانها القاتمة أزماتٍ لا تموت.في عام 2019 احتفى محرك البحث غوغل بالذكرى الـ 85 لولادة التشكيلي السوري الأشهر لؤي كيالي، الذي صوّر الناس البسطاء العاديين - كصيادي السمك، والخبازين والنساء الحوامل - بطريقة نبيلة. لم يرسمْ للتاريخ، بل للذاكرة التي تُخلّدُ من لا قبورَ لهم. في زمننا هذا، حيث تُسحقُ الأحلامُ تحت أقدام الحروب والأزمات. كيالي لم يكُن فنانًا للماضي، بل نبيًّا للجمال الخفيّ الذي ينبتُ في الأماكن الأكثر عتمةً. اليوم، وقد صارت المعاناةُ لغةً عالمية، نرى في عينَي شخصياته المُرهقة نفسَ نظرةِ اللاجئين والمهمشين، وكأنّ فرشاتهُ سبقتْ عصرَها بقرون. يُدرَّس فنهُ اليومَ كنموذجٍ لفنانٍ رفضَ أن يكونَ صورةً لذاته، بل مرآةً لعصره. يقولون إنه “فنان الحزن النبيل”، لكنّ حزنه كان بصمةً لإنسانٍ آمنَ بأنّ الفنَّ ليس ترفًا، بل مقاومةٌ بالجمال. * شاعرة سورية