فيلم «السنيور عقدة الخواجة»..

بين الكوميديا والنقد.

في عالم السينما، تنبع بعض الأفكار من جذور اجتماعية عميقة لا تزال تمتد وتتشعب رغم مرور الزمن. فيلم السنيور، الذي صدر عام 2024، من إخراج أيمن خوجة، وسيناريو وحوار؛ العنود المساعد وبدر العساف، يطرح فكرة مكررة لعقدة الخواجة، أو الانبهار غير المبرر بكل ما هو أجنبي، بأسلوب كوميدي يلامس السخرية والواقع في آنٍ واحد. لكن، هل استطاع الفيلم معالجة هذه الفكرة بأسلوب يرقى لجديتها أم اكتفى بتوظيفها كأداة للضحك؟ في الواقع، يعتمد الفيلم على حبكة ليست جديدة، حيث يقف المهندس سالم، الذي لم يكن يؤمن سوى بجهده وكفاءته، ويواجه صفعة قاسية من واقع يتلاعب بالموازين. لم تعد الخبرة مقياسًا، بل الشكل، واللهجة، وجواز السفر. “السنيور” مرآة تعكس كوميديا سوداء، حيث الضحك ليس إلا نحيب متخفٍّ، وحيث العبثية تسير جنبًا إلى جنب مع مجتمع يمجّد كل ما هو أجنبي، حتى لو كان سائق أجرة في بلده. يبدأ الصراع حين يتمسك المهندس سالم بموقفه المهني، ويصرّ على تنفيذ طلب العميل باستخدام الإسمنت المدعوم، رافضًا الانصياع لتوجيهات “الخبير الأجنبي”، الذي يمتلك سلطة مطلقة لمجرد أن اسمه ليس عربيًا. في مشهد أشبه بمسرحية عبثية، يجد سالم نفسه في مواجهة قوة غير مرئية، سلطة منحت الغرباء امتيازات غير مستحقة. وحين يحتجّ سالم، تأتيه الإجابة مغلفة بإنهاء خدماته. “ليش فصلتوني؟” “تقليل العمالة” “وداخلين على خمسة مشاريع جديدة!” هكذا، يُطرد سالم خارج الشركة كما تُركل الحقائق غير المرغوب بها. يخرج إلى الشارع، وتغلق الأبواب خلفه، والفرص موزعة على من لا يشبهونه. حتى مكاتب التوظيف تعجّ بالأجانب، حين كان يتقدم بطلب التوظيف، وكأنها شبكة محكمة لا مكان فيها لمن يعرف الأرض أكثر من غيره. التمييز ليس محصورًا في الشركات فقط، بل يتجلى في مشهد مركز التسويق التجاري، حيث يُمنع الشباب من دخول المجمع التجاري بملابس عادية، بينما يُسمح للأجانب، وكأن القانون له وجهان، واحدٌ للسكان، وآخر للغرباء. هنا يظهر صديقه (أخو زوجته) الغريب الأطوار “صالح”، الذي يلقب بـ”البغل” (عبدالرحمن الزريق)، ليضيف لمسة من الكوميديا الساخرة التي تعكس بؤس الواقع. في خلفية هذا المشهد، نشعر وكأن السينما العربية تستدعي مشاهد من “عسل أسود” (2010)، حين تحولت الجنسية الأجنبية إلى جواز مرور لكل الامتيازات الممكنة، بغض النظر عن الاستحقاق. كذلك فيلم “التجربة الدنماركية” (2003). إضافة لأحد حلقات المسلسل القطري “فايز التوش” (1984) في حلقة تتحدث عن عقدة الخواجة، حيث مواطن عربي ينتحل شخصية خبير غربي ويتقدم للعمل في دولة خليجية ويعطى عرض مبالغ فيه، وحينما يكتشف أمره يخفض مرتبه إلى القاع. في خضم يأسه، يقرر سالم، بدعم من صالح، أن يلعب اللعبة بطريقته. يتنكر في شخصية الخبير الإيطالي “باولو”، وبمجرد أن تنزلق لهجة أجنبية من شفتيه، يُفتح له باب الشركة من جديد، ويُمنح الاحترام، ويُعامل كأنه عبقري، فقط لأن مظهره تغير! المفارقة هنا ساحرة في سذاجتها: لم يكتسب سالم أي مهارات جديدة، لم يصبح أكثر ذكاءً أو كفاءة، لكنه غيّر مظهره ولهجته، فاستقبلوه استقبال الفاتحين! لكن، كما في كل الحكايات، لا بد أن تسقط الأقنعة. وحين يُكشف أمر سالم، يدرك أن شيئًا قد تغير، لقد أصبح شاهد جديد على حلقة متكررة من التمييز العبثي، حيث القيم المهنية لا وزن لها أمام جنسية مكتوبة على جواز السفر. ما يميز السنيور هو جرأته في تناول هذه العقدة في سياق معاصر يتشابك فيه الفكاهة مع انتقاد المجتمع. لكنه، من ناحية أخرى، لا يقدم حلولاً تتعمق في أسباب استمرار هذه الظاهرة، يكتفي بالمرور السطحي على السلوكيات النمطية، كأن يعتقد الآخرون أن الأجنبي أكثر كفاءة لمجرد كونه “خواجة”. في هذا الإطار، يبدو الفيلم كأنه يضع المرآة أمام المجتمع، لكنه يتجنب النظر فيها بعمق. لا شك أن الكوميديا وسيلة فعالة لنقد القضايا الاجتماعية، وهذا ما يحاول السنيور استغلاله. ويعتمد على مشاهد مليئة بالمفارقات الساخرة، مثل محاولات سالم التحدث بلكنة إيطالية مزيفة أو تصرفاته التي تُجسد الصورة النمطية عن الأجانب. لكن، مع تكرار هذه المشاهد، يصبح التركيز على الضحك أكثر من النقد. يمكن القول إن الفيلم نجح في بعض الجوانب بفضل الأداء القوي لياسر السقاف، الذي استطاع أن يقدم شخصية سالم بمرونة تجمع بين السذاجة والذكاء. أما بيومي فؤاد، فقد أضاف طابعًا كوميديًا في الشركة، لكنه لم يُعمق الحبكة أو يثريها بما يكفي. ورغم أن “السنيور” نجح في تقديم صورة سينمائية متقنة، فإن إيقاعه ظل أحاديًا بعض الشيء. ربما كان الفيلم – رغم الجهد - بحاجة إلى تصعيد درامي أكثر جرأة، أو ربما إلى لحظة انفجار تهز أركان القصة، خاصة وأن بعض مشاهده كانت مهيأة تمامًا لنقلة درامية حادة. أما “الميزانسين” في الفيلم فكان في أيدي مخرج بارع، حيث بدت كل لقطة وكأنها منحوتة بعناية، حركة الكاميرا كانت سلسة، المشاهد متوازنة، مما جعل الفيلم يبدو أكثر انسيابية عن المتوقع. المخرج أيمن خوجة، الذي درس صناعة الأفلام في الولايات المتحدة، يظهر هنا كمخرج واعد، قادر على الإمساك بتفاصيل المشهد السينمائي بحرفية، لكنه لم يغامر كفاية، ولم يدفع القصة إلى مناطق أكثر قتامة، ليجعلها أكثر من مجرد كوميديا ساخرة. قبل أن ننتهي، في الواقع، فكرة الفيلم قد تبدو مألوفة، لأنها ببساطة لم تُعالج القضية – المكرورة - بعد بالشكل الصحيح، و“السنيور” مرآة لواقع لم يتغير، حيث يظل الميزان مائلاً لصالح من يحمل جواز سفر أجنبي، بينما يصطف الأكفاء على الهامش، في انتظار فرصة لن تأتي، إلا إذا نطقوا بلكنة غير مألوفة، لكن، في الحقيقة، العمل لم يفقد بريقه. ويبقى السؤال، ليس فقط في الفيلم، ولكن في واقعنا أيضًا: متى يصبح الاسم مجرد اسم، والجنسية مجرد ورقة، والكفاءة هي الحكم الوحيد؟