صوت القبقاب وصدى الذكريات.

تروي لي صديقتي المصرية، ذات الأصول العريقة، أن جدها الأكبر كان يمتلك قبقابًا خشبيًا مزينًا بالجلد، رفيق خطواته إلى أحد مساجد القاهرة القديمة. بحماسة خفيفة الظل، بدأت تصف لي تلك التفاصيل الصغيرة، كيف كان صوته يُسمع بوضوح على الأرض، يُردد إيقاعًا لا يُنسى: تاك تاك تاك. وكأن القبقاب كان ينسج لحنًا خاصًا يتماهى مع نبض الزمن، ومع حكايات تُروى على عتبات التاريخ. القبقاب، هذا الحذاء التقليدي المصنوع من الخشب، كان جزءًا من الحياة اليومية في عصور مضت. يتميز بتصميمه البسيط والعملي، إذ يتكون من قاعدة خشبية مصقولة تُصنع غالبًا من خشب الجميز أو الزان، مما يجعله قويًا ومتقن الصنع. غالبًا ما كان يُضاف إليه جلد أو قماش لتثبيت القدم، وكان يُستخدم في البيوت والحمامات العامة والمساجد. ما جعل القبقاب مميزًا هو ارتباطه بالنظافة والطهارة، حيث كان يُفضل ارتداؤه في الأماكن الرطبة أو أثناء الوضوء، بسبب ارتفاعه الذي يحمي القدمين من البلل. عندما زرت القاهرة، وجدتني أمام تلك المجسمات الفولكلورية للقباقيب المعروضة في الأسواق الشعبية، وكأنها بقايا من زمن قديم يرفض الانصياع للنسيان. ما أن وقعت عيناي عليها حتى عادت كلمات صديقتي ترنّ في أذني، ومعها تلك النكتة التي لم تكتمل يومًا دون أن تثير فيّ ضحكة صافية. القبقاب لم يكن مجرد أداة بسيطة؛ كان شاهدًا على تفاصيل يومية عميقة، على أزمنة حملت في طياتها روح الناس، وطريقتهم في العيش، وطقوسهم الصغيرة التي تُعرّفهم أكثر مما تفعل كلماتهم. في كل مدينة أزورها، أحرص على أن أبتعد عن الطرق الحديثة، وأتجه نحو الأزقة العتيقة. هناك، بين الجدران التي شهدت آلاف القصص، أجد الحكايات التي لا تُروى، والمشاعر التي لا يزال صداها يتردد. هذه الأماكن ليست مجرد شوارع وأبنية، بل هي أرواح حية تهمس لي عن الماضي، تربط الحاضر بجذوره، وتمنح المستقبل معنى أكثر أصالة. في تلك الأسواق، كان الماضي حاضرًا في كل شيء؛ في الألوان التي بهتت بكرامة، في الروائح التي تروي قصصًا عن توابل عابرة للحدود، وفي أصوات الباعة التي تعيد إحياء كلمات اندثرت في زمن التكنولوجيا. كل شيء كان يشبه صديقتي التي أفتقدها اليوم؛ مزيج من البساطة والروح المرحة والحكمة المبطنة. بينما كنت أتجول في أحد تلك الأسواق، استوقفني شيخٌ مسن يروي قصصًا عن الأحياء القديمة. قال لي جملة لم أنسَها: “يا بنتي، الحاضر عمره ما يفهم نفسه إلا لما يرجع لأصوله.” حينها أدركت أن تلك الأزقة هي القلب النابض للمدينة، والثابت الوحيد في زمن متغير. إنها كالقبقاب الخشبي، البسيط في ظاهره، العميق في أثره، الذي يحمل في كل خطوة صدى لروحٍ ظلت نابضة بالحياة رغم رحيل الزمن. ربما، كما قالت صديقتي، صوت القبقاب هو ذلك النقر الذي يُوقظ فينا الحنين. الحنين للأصالة، للأماكن التي لا تتغير، للأشخاص الذين يجعلون من الحكايات لحظة خالدة. صوت القبقاب ليس مجرد صوت؛ إنه دعوة للعودة إلى الجذور، إلى قصص الأجداد التي تمنح الحاضر معنًى، وتجعل المستقبل أكثر وضوحًا.