بدرية البشر.. أيقونة الإبداع الأدبي السعودي والعربي.

تعدّ الكاتبة السعودية بدرية البشر من الأديبات اللواتي تركن أثرهنّ الإبداعي والفكري والصحفي في مدونة الأدب السعودي والعربي عامة؛ حيث تميزت كتاباتها الأدبية على الخصوص بالمهارة اللغوية والكفاية الجمالية والفنية التي بوأتها المكانة التي تستحقها بين نساء ورجال الأدب. ولقد كان إبداعها الأدبي سببًا في تميزها الإعلامي والصحفي، حيث دخلت غمار الصحافة والإعلام من بابه الواسع متسلحة بلغة أدبية جميلة وثقافة متنوعة وتجربة أدبية ساهمت في انتشار اسمها في هذا المجال وذيوع صيتها أكثر؛ وأهم ما ساهمت به هو أعمدتها الدائمة في مجلة اليمامة، وجريدة الرياض، وجريدة الشرق الوسط، وجريدة الحياة، وغيرها. الكاتبة بدرية البشر تمارس الكتابة الأدبية والصحفية من منطلق فكري ومعرفي يحكمها، ويحكم قناعاتها الخاصة التي تتحدد من خلال ما راكمته من تجارب في الحياة والقراءة والبحث والتفكير المبني على احترام الآخر بكل أشكاله وجنسياته وانتماءاته السياسية والدينية والهوياتية. ولذلك نجد العديد من كتاباتها تحيل على مرجعيات فكرية لا تؤمن بالعنف والنمطية والإقصاء والإكراه والتهديد والوعيد والانتقام... لأن القيم الحقيقية هي التي تقوم على التسامح واحترام الآخر ومنحه الحق في التفكير والتعبير دون وصاية أو اغتصاب لهذا الحق. عندما قررت، قبل سنوات، أن أكتب عن رواية الكاتبة السعودية بدرية البشر “غراميات شارع الأعشى” الصادر عام 2013، لم أكنْ أعرف الكثير عنها، لكن النص الروائي المذكور فرض علي البحث عنها وعن إنتاجاتها الأدبية ومحاولة فهم عوالمها الأدبية والإبداعية في نصوصها، وخاصة في مجال الرواية؛ لأن هذه الأخيرة مجال اهتمامي الأثير، وليس الوحيد طبعًا. وعندما قرأت الرواية، وتمعنت فيها ودرسته جيدًا، أدركت حينها أن الكاتبة بدرية البشر تستحق أن تكون في مصاف الروائيين العرب المتميزين والمثيرين للجدل، إناثًا وذكورًا. حيث يحكي نصها هذا عن حرية المرأة في مجتمع ذكوري، تعاني فيه كل أنواع الظلم والكبت والتجريد من الآدمية، لأنها تمثل في الفكر الذكوري المسيطر عورة، ولأنها وسيلة لإغراء الرجل، ولا يحق لها أن تختلط معه في الأماكن العمومية، أو تبديَ له بعضاً من جسدها لأنه يفتنه ويخرجه عن طوره ورجولته المحترمة. فبدرية البشر بحكم، معرفتها بمجتمعها المنغلق فقد حاولت أن تكتب عن نماذج نسائية وضعت هدفًا مهمًّا في مسار حياتها يتأسس على التحرر من السلطة الذكورية، والخروج من الشرنقة المحكمة التي وضعها فيها الرجل فنجحت في ذلك أيما نجاح، واستطاعت أن تكتب رواية جيدة ومؤثرة ومثيرة للعديد من النقاشات والأفكار. تؤمن بدرية البشر بالمرأة المتحررة اجتماعيًا باعتبارها تنتج في مجال عملها أكثر، وتبدع في مجال تخصصها، فترتاح نفسيًا في تربية أبنائها، وتجتهد أكثر في ذلك، لأنها تشعر بذاتها وبوجودها الخالص. هذا التحرر يجعل حياتها سهلة وسعيدة، بينما غيابه يجعل من حياتها صعبة وعسيرة ومملة لأنها تمنعها من الاختيار والحق في اتخاذ القرار والمشاركة فيه على الأقل. وفي هذا الإطار، نجدها ككاتبة روائية على الخصوص، تشكل ذلك المنبر الفكري النسوي الذي يعمل جاهدًا على تقويض فكر مبني على قناعات وأفكار محددة سلفًا تحت عناوين خاصة تحقق الشكل العام للمجتمع والمرأة وفق قواعد وأعراف وتقاليد لا يمكن مناقشتها أو ردها وانتقادها. وتكرس بدرية البشر ذاتها في عملية التعبير عن الهوية الأنثوية التي كانت الثقافة الأبوية والذكورية سببًا في محوها وفي التقليل من شأنها، حيث كانت تتعرض للكثير من المضايقات والأوصاف التي تجعل منها ثقافة وكتابة شاذة تخرج عن المسار الإبداعي والفكري الصائب باعتمادها على تعبير متخيل يروم الهجوم على الرجل. وفي نقدها للرؤية القاصرة للمرأة والتي تجعل نفسها ضمن إشكالية تاريخية، نظرًا لتجدد الأسئلة والإشكاليات حولها باستمرار، لكون النظر إليها يكون نتيجة لسلطة معينة أو لرؤى دينية أو سياسية، هذا الخطاب المنتج لمعرفة مختلفة وغير مستهلكة من قبل، هو خطاب غير موجه بالأساس للمرأة فحسب، بل للرجل والمجتمع ككل. إن قبول إبداع المرأة حسب بدرية البشر يقرُّ أهم مبادئ احترام الصوت المخالف والآخر، بحيث تتحول المرأة وفق هذا التشكيل الإبداعي المنتج، وليس المستهلك، آخرًا يتقدم برؤيا تستلزم المعاينة والمقاربة، وليس الإلغاء، أو الإقصاء. دون أن يعني هذا أن المسألة تدخل في إطار إلزامية الأخذ بكل ما يصدر عن إنتاجية المرأة، لأن الإبداع لا يقترح نفسه كشكل معرفي للتقبل أو الرفض، ولكنه يطرح منطقه للمشاركة في صياغة الأسئلة، وخلخلة الثوابت، والدعوة إلى التأمل، وإعادة إنتاج معرفة جديدة حول الذات والعالم والعلاقة بينهما. إن الموقف الرافض لعدم انخراط المرأة في الإبداع الكتابي، كان دافعًا قويًا لظهور كاتبات وروائيات أخريات انتهكن حرَم الرواية وأبدعن فيها نصوصًا جميلة، ومن هؤلاء نجد الكاتبة بدرية البشر التي كانت مصدرًا مهمًّا لمعرفة حقيقة المرأة وطريقة تفكيرها، ومصدرًا غنيًّا بالأفكار والمواقف التي ساعدت في سبر أغوار النفس الأنثوية والتعرف عليها أكثر. ولقد استفادت الكاتبة بدرية البشر من هذا الموقف أيما استفادة، فنحن نعرف أن كل ممنوع مرغوب، بل إن كل محرم قد يصير هو الغاية لدى الآخرين الذين يجدون أنفسهم في موقف الظلم من جراء هذا التحريم. والمرأة العربية التي عاشت طيلة حياتها وهي تعاني من ظلم كبير، يتجلى في المنع والحظر، سواء في مجال التعبير عن الرأي، أم الإبداع، أم حتى التفكير في إبداء هذا الرأي في قضية عامة أو خاصة. لقد انخرطت بدرية البشر في التحليل الاجتماعي والنفسي والتاريخي والسياسي والثقافي، فقدمت منظورًا ثقافيًّا متعددًا لبعض ظواهر الحياة البشرية ومظاهرها الاجتماعية، فكان واضحًا معالم التفكيك للمجتمع التقليدي لأنه يمثل الحاضنة التي أغنت الثقافة الأبوية الذكورية بكثير من مقوماتها وأفكارها، فترتبت معظم ضروب وأنواع الإقصاء والاختزال التي تعرضت لها المرأة عبر تاريخ البشرية. وفي هذا الصدد نجدها تلتقي مع الباحثة المغربية فاطمة المرنيسي من خلال العمل على نقد بنية المجتمعات الإسلامية والعربية، ونقد الخطاب الثقافي الداعم لمقوماتها ومسلماتها، حيث وزعت عملها بين بحث استقصائي محكم عُنِي بإعادة رسم صورة المرأة في التاريخ، وتمثيل ثقافي لدورها في مجتمع تقليدي، واشتبك كلٌّ من البحث والتمثيل معاً بهدف تعويم صورة مختبئة في ثنايا التاريخ والواقع. وفي هذا الصدد، كان على الكاتبة بدرية البشر أن تكرس ذاتها في عملية التعبير عن الهوية الأنثوية التي كانت الثقافة الأبوية والذكورية سببًا في محوها وفي التقليل من شأنها، حيث كانت تتعرض للكثير من المضايقات والأوصاف التي تجعل منها ثقافة وكتابة شاذة تخرج عن المسار الإبداعي والفكري الصائب باعتمادها على تعبير متخيل يروم الهجوم على الرجل... وبالتالي، فالكتابة الأنثوية عمومًا تصبح وفق ما تبدعه بدرية البشر فعلًا مجاورًا هدفه تنشيط المناطق المغيبة في التمثيل الثقافي وتفعيلها جماليًّا وفنيًّا، فضلًا على التركيز على الخبرات الخاصة بالمرأة تجاه ذاتها ومشاعرها وعالمها، وهو ما فشلت الثقافة الأبوية في تمثيله على أساس فكري صحيح ومنظم. ولا يخفى على القارئ أن الكاتبة العربية عمومًا قد ولجت عالم الإبداع الروائي لنقده الرؤية القاصرة للمرأة والتي تجعل المرأة نفسها ضمن إشكالية تاريخية، نظرًا لتجدد الأسئلة والإشكاليات حولها باستمرار، لكون النظر إليها يكون نتيجة لسلطة معينة أو لرؤى دينية أو سياسية. وفي هذا الإطار، استطاعت الكاتبة المبدعة والإعلامية الناجحة بدرية البشر أن تبدع نصوصًا أدبية، وروائية على الخصوص، تزخر بالعديد من التيمات والموضوعات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تمثل صورة المرأة العربية، وتقدم معلومات وأفكارًا مهمة عن أحاسيسها وعواطفها، ومنظورًا محددًا لعلاقتها بالرجل، ومدى تأثرها بهذه العلاقة، لتمنحنا فكرة واضحة عن كل ما تشعر به وما تكنه من مشاعر تجاهه وتجاه مواقفه منها، وسلوكياته، وتصرفاته معها. إننا نفهم، ومن خلال روايات بدرية البشر بالذات، تلك الأحاسيس الغامضة التي يصعب على الرجل المبدع، والروائي بالخصوص، ترجمتها عبر إبداعاته، لأنه لا يمكنه أن يدرك تلك المشاعر الدفينة والأحاسيس الداخلية للمرأة... وفي النهاية، يمكننا أن نكوِّن رأيًا واضحًا عن المرأة وفكرها ومواقفها من خلال ما نقرأه من إبداعات روائية بالخصوص. فقررت في النهاية أن تكتب نصوصها الروائية لتشارك في إبعاد هذا العسف والحيف عن المرأة عمومًا. فلم تجد سوى البوح السردي، والروائي على الخصوص لتقدم رؤيتها للعالم، وتبوح بأسرارها، وتعلن رفضها لكل وصاية تعسفية عليها من طرف الرجل، فأعلنت ثورتها على كل هذه الأمور، وطالبت بمنحها شرف المساواة وكرامة المصاحبة للرجل في أمور الدنيا والدين والوطن. * كاتب وناقد مغربي