قراءة في مجموعات بدرية البشر القصصية

ثلاث مجموعات قصصية، لبدرية البشر نهاية اللعبة، ومساء الأربعاء، وأخيرا حبة الهال. ربما يرد سؤال لماذا هذه الورقة المقدمة عن مجموعات قصصية صدرت منذ أكثر من 20 سنة تقريبا، ألم يكن الأجدى البحث عن مجموعة حديثة صدرت خلال هذه السنوات؟ هذا سؤال صغير قد يرد إلى بعض القراء أو بعض المهتمين بالأدب، والإجابة تتفرع إلى عدة أجوبة، لكني أظن أن أهمية المجموعات الثلاث في أننا الآن في مرحلة تحول كبير خصوصا بما يتعلق بالمرأة، وهذه القصص تعطي انطباعا أو مسحا بسيطا أو توثيقا لما حدث، فالقصص نافذة تطل على الخلف، ولا يمكن فهم ما يحدث الآن إن لم يكن هناك فهما لما حدث من تشابكات وتعقيدات وأزمات، ليكون الحاضر مفهوما بصورة أوضح، وبما أن القصص هي الأقرب لتصوير معاناة الإنسان وأكثر قدرة على الاقتراب منه ومن عوالمه النفسية، فقراءة القصص التي انطلقت من القاصات هي إضاءة قوة لا سيما أن القصص تمتح أحداثها من الواقع بشكل مباشر وأحيانا بشكل متواري، فالقصص تمتلك قدرة عظيمة على استبطان الشخصيات وتصوير أعماقها من خلال اللغة، فهي قادرة بسحر لغتها أن تدهش القارئ، وتثير لديه الأسئلة. تميل القصص في المجموعات الثلاث إلى الحقل الاجتماعي التي كانت تمثل هاجسا لمعظم الكاتبات والقاصات. واستطاعت أن تسرد بعض الحكايات وتلامس الواقع الاجتماعي في تلك الفترة الزمنية بلغتها السردية وبناء أحداثها، وبوجهة نظرها عما يحدث حولها من إشكاليات ومفاهيم وأعراف وتقاليد، ولو قمنا بقراءة القصص دون معرفة اسم منْ كتبها لما شككنا بأنها امرأة تدافع عن همومها وأوجاعها وصراعاتها سواء مع الرجل، أو مع المرأة التي تمثل رأيا ذكوريا تتبناه دون أن تشعر، أو مع القيم والأعراف التي تحكم المجتمع. وقد نجد لغة أقل حدة وأقل شراسة من غيرها نحو الرجل في هذه المجموعات الثلاث من غيرها. القصص كُتبت بنسق واحد وطريقة متسلسلة وتتابع زمني دون كسر لزمن القصة من حيث العودة إلى الخلف أو الاستباق إلا من خلال نصوص قيلة جدا، ينتقل بنا السرد عبرها إلى عدة أمكنة في القصة الواحدة، والزمن فيها ليس مكثفا، أو يصور لحظة أو لقطة قصيرة أو موقفا بسيطا مشحونا بالشعور النفسي، إنما نجد أغلب القصص زمنها طويل، والشخصيات فيها كثيرة، تظهر لنا بأسماء أعلام، فلا وجود للنكرات. قد استخدمت طريقتان في السرد: ضمير الغائب العليم، والذي يستطيع التنقل في الأمكنة ومع الشخصيات دون حد، ودون أن يعبأ بتماسك القصة وتكثيفها مما أوجد أحداثا فائضة عن الحدث الرئيس للقصة، بل جعلها أيضا تثير الملل والرتابة لدى المتلقي، والآخر هو ضمير المتكلم الذي ضيق المسافة بين القارئ والقصة. اختارت القاصة عنوانا خارجيا لأولى مجموعتها نهاية اللعبة، بينما عنونت المجموعة الثانية والثالثة بعنوان إحدى القصص في المجموعتين مساء الأربعاء وحبة الهال. الواقع المعاش في “نهاية اللعبة” نهاية اللعبة صدرت عام 1992 وتتكون من 10 قصص: اليوم العالمي لزهرة، الفراشة، الحذاء، خديجة، تفاصيل موت عام، رفعة، الفزاعة، جداريات مدرسية، المزلاج، الجسر استطاعت بدرية البشر أن تسجل لمحات من الواقع المعاش في مكان جغرافي محدد، وقصصها تمثل ذاكرة مهمة لدراسة النواحي الاجتماعية وحياة الناس وحياة المرأة خاصة في ذلك الزمن، فقصصها تحيل إلى زمن وتوثق الإشكاليات والمفاهيم التي تدور حول المرأة، وعلاقة الرجل بالمرأة. في قصة اليوم العالمي لزهرة قصة تسرد حياة زهرة الموظفة التي تعاني من ضغط الحياة اليومية سواء في المنزل أو خارجه، والقصة تمثل شكلا دائريا تبدأ قصتها صباحا وتنتهي ليلا لتعود أدراجها مرة أخرى إلى زمن بدايتها، فالشخصية في صراع تام والقصة تتشكل من عدة أمكنة، المنزل ، الشارع، السيارة، الشركة، لتعود إلى المنزل ، وكل محطة من هذه الأمكنة يشكل قلقا وأزمة صغيرة في يومها، والزمن فيها ممتد على طول اليوم الواحد، ومحطاته تصرح به، في الساعة الخامسة والنصف صباحا، الساعة الثانية والنصف ، والزمن النفسي الضيق يشكل مصدر قلق، فالموظفة يومها صراع بين واجباتها الوظيفية والأسرية، فهي أشبه بالآلة تعمل في المنزل وخارجه، وليس الصراع فقط مع الشخصيات، فالصراع مع الزمن والوقت القصير وهذا ما يتشكل عبر الحديث الداخلي “كم أكره هذه الساعة، الصخب لا يهدأ، الزوج يدور في الغرف” فهذا الوقت لا يكفي المرأة/ الزوجة / الموظفة أن تفي بمتطلبات الزوج والمنزل والأبناء “نفخت حبات الأرز وجهها وهي تفتح غطاء القدر بقطرات ساخنة... لتجعل النهار يبدو مستحيلا”. والقصة بتحولاتها الزمنية والمكانية تتناسب مع سرعة الأحداث، فالمكان يتغير بسرعة، والزمن ينزلق بسرعة من بين أصابع زهرة، وهي صورة من شقاء الموظفة زهرة، فلا مجال للأحلام ولا مجال للعودة في الخلف، ولا يمكن اللحاق به، والأوامر تتوالى من الزوج والعجوز والمديرة والأطفال، والصور الشعرية تؤازر ذلك الركض “الليل في الخارج أسود لا تبزغ فيه أية نجمة صغيرة، والقمر يغيب حتى يبدو هذا الليل بلا قمر”. في قصة الفراشة العنوان يتخذ من شخصية أم سليمان الشخصية المسماة كما هو دأب طريقة بدرية البشر فهي تضع أسماء لشخصياتها، لكنها في هذه القصة تعنون القصة ليس بالاسم الصريح كما في قصة رفعة أو خديجة، بل تضع اسم المهنة الفراشة والمتداول بين طبقات المجتمع، والقصة تلتقط إحدى الشخصيات المغمورة ذات المهنة البسيطة، لكن دورها الاجتماعي كبير في المجتمع، فرغم بساطتها وعملها الذي ينظر إليه بنظرة متدنية، إلا أنها هي الجسر لزواج الكثيرات، حتى المديرة ذات المنصب الكبير، استطاعت الفرّاشة أم سليمان أن تقنعها وتغير مفهومها نحو الزواج، وهي تمتلك كاريزما وقوة في الإقناع وتغيير الرأي حول بعض الأفكار لدى بعض النساء “لقد كان لها الفضل في تزويج المديرة حيث راحت تدور حول طاولتها لتخبرها أن العمر يمضي كالبرق”. وأم سليمان تحظى بقدرة على معرفة البنات ومواقع بيوتهن وهي الفاعل المؤثر في القصة. تشهد القصة تغيرا في أمكنتها وتحولا سريعا في زمنها، والقفز سريعا إلى الأمام حيث العرس وتحول الشخصية أم سليمان إلى السيدة الأولى “على الرغم من أنها فراشة في المدرسة، فإنها تتحول إلى السيدة الأولى في بيت العرس” فهي تقوم بترتيب العرس وإعداد ضيافته. القصة تبرز القيمة المعنوية المهمة لبعض الشخصيات المغمورة في المجتمع والتي تستطيع كسب المال رغم موقعها الوظيفي البسيط، وتبدأ بحدث من نقطة بعيدة عن النهاية، وأحداثها تتسلسل في اتجاه واحد رغم الزمن الطويل، كما يُستخدم الحوار باللهجة المحلية لتعطي القارئ إحساسا أكثر بالواقع، وتوهمه بحقيقة الأحداث، ويحضر الزمن بشكل خفي في القصة “حين راحت تدور حول طاولتها لتخبرها أن العمر يمضي كالبرق، والنساء يبرن بلا زواج” وتخاطب أم سليمان منيرة “يا بنتي كثرة القراءة يروح شبابكن”. الفراشة توضح قيمة الزواج وأنه القيمة الفعلية للمرأة من خلال وجهة نظر شريحة اجتماعية، فالمركز أو المنصب الذي تعتليه المرأة يبقى ناقصا ما لم يقترن بالزواج. في قصة الحذاء التي تُسرد بضمير الغائب العليم، تُلتقط إحدى الشخصيات المهشمة أيضا في بيئة المدرسة والتي تعيش حياة بائسة وتعتمد في حياتها على البيع اليومي، ومن خلالها يتبين قسوة المعلمة وعم تسامحها، والمفارقة أن ذلك يحدث في بيئة تعليمية، ولكن الواقع يتعارض دائما مع الواقع المثالي، فالتلميذة محاطة دائما بالشخوص القاسية، والظروف التي تؤزم حياتها، وهي تحاول وتسعى لكن الطريق معبأ بالأشواك، فحينما تحاول الانفلات والهروب من أزمتها يواجهها رجال البلدية، فتفقد حذاءها. المدرسة مكان مغلق لكنه مكان متنفس للبنات، فنسمع ونرى من خلاله أحلام الفتيات والطالبات، فهي مكان تتلاقى فيه الفتيات، وتسرد فيه الحكايات وما يتعرضن له من ضيق وضغط ممن يحيط بها. عنوان قصة جداريات مدرسية يدلل على أهمية المكان، فمفردة جداريات توحي بالمراقبة التي تطوق الشخصية الرئيسة في القصة. فتصور القصة الحصار الذي تتعرض له الفتاة من أخيها الذي حل محل أبيها المتوفى، فالبنت هي شرف الأسرة، ولا نجد فقط دور الرقابة في الأسرة بل أيضا نجده بين جدران المدرسة، المكانان المنزل والمدرسة كلاهما يقومان بالمراقبة والتفتيش القهري للبنات، فالفتاة محل شك وتهمة وشبهة، فلا بد من مراقبتها ولا شيء يمنع الأخ أو المدرسة من انتهاك خصوصيات الطالبة وأشيائها الخاصة، لذلك تبحث الفتاة دائما عن مخابئ لإخفاء أغراضها الشخصية الخاصة وأسرارها. المدرسة تؤازر البيت والمجتمع في هذا السلوك والاختراق، فرغم أنها مؤسسة تعليمية وتربوية إلا أنها تقوم بتدعيم وتأكيد طريقة تعامل الأخ (الرجل) مع الفتاة. ومن خلال المكان يتم عرض بعض صور وأسرار الفتيات وأحاديثهن، المُراقبة تقتحم الفصول فجأة وتقوم بتفتيش الحقائب والكتب والدفاتر والعباءات فتقتحم الخصوصيات في المدرسة، بين أيدي الفتيات تتحول مدلولات الأشياء، الصور التذكارية للأب، المرأة ودليل الأناقة والجمال، المجلات كل ذلك يتحول إلى جريمة حين تكون بين أيدي الفتيات، وفي هذه القصة يحضر الرمز السلطوي شهريار “يا رب من ينقذ رقبتي من شهريار البيت حين أعود” ليس الرجل هو شهريار في هذه القصة، بل أيضا النساء القاسيات هن شهريار، المراقبة والمعلمة كل أولئك سيف مسلط على رقاب الطالبات. تلجأ القاصة أيضا إلى عنونة بعض قصصها بشخوص القصة الرئيسة، فهي بتلك العنونة تلفت انتباه القارئ، وتريد أن تسمعه بسردها جانبا من حياة هذه الشخصية كما ذُكر سابقا، أحيانا ترمز له بصفته كما في قصة الفراشة، وأحيانا تقوم بتسميته باسمه الصريح، وفي تصوري أن العنونة بصفة من صفات الشخصية هي عامل جاذب للقراء نحو قراءة القصة، ومن زاوية أخرى فإن هذه التسمية تعطي إشارة قريبة للقارئ بمضمون القصة. وفي قصة رفعة نجد الموضوع العاطفي وعلاقة الحب التي تكونت بين رفعة ومحمد، وتصف القصة جزءا من حياة رفعة، وفي مقابلها حياة محمد، لكنهما لا يستطيعان الالتقاء بسبب متطلبات الأسرتين ودورهما الأسري. “حبة الهال” ترصد التحولات المهمة حبة الهال مجموعة قصصية صدرت 2004 تمتح من الواقع قصصها، وهي مؤلفة من 10 قصص. المكنسة السحرية، البئر، حبة الهال، بائعة الجرائد، المطوع، السحارة، الشاعرة، البنات اللاتي يرغبن بالزواج، عشق نورة، بائع الغاز. في المكنسة السحرية: قُدمت القصة عن طريق الضمير الغائب وبدأت الأحداث في غرفة صغيرة، ففي البداية يرتكز السرد على الفتاة وتصوير الروج والعلاقة المتوترة بين الفتاة والأم. حيث ترد عبارة الأم المختفية عن القصة إلا عبر هذه الجمل القصيرة: “إنّ الشيطان لا يجد طريقه إلى الرجل إلا عن طريق المرأة، فهي مكمن الغواية، والرجل هو صيدها السهل....”. ويتم في غرفة المقابلات طلب إسدال غطاء الوجه، ترد جملة من أحد الرجال “وأن العمل هنا يعتمد على الجهد والكفاءة”، وهذه الجملة قد تبدو أنها شبه عادية أو بسيطة، لكن هي منْ تصنع المفارقة عند الوصول إلى نهاية القصة. القصة تتعدد أمكنتها. وعنوانها يحمل بعدا فنتازيا لا يتضح دوره إلا في منتصف القصة، ولا نعرف مسمى هذه الوظيفة سوى أنها تعتمد على الجهد والذكاء، تبتعد القصة عن الشخصية أحيانا لتجعل من النص مترهلا، ثم يعود السرد إليها مرة أخرى، والمكنسة تكشف الأبعاد الاقتصادية للمجتمع، والقصة لا تسرد من خلال مشاهد معروضة للشخصية (سحر)، كما اُرتكِز على الحذف لأن زمن القصة طويل جدا، والبداية كانت بعيدة عن نقطة النهاية. أما قصة المطوع فهي صراع بين الرؤية العلمية والموروث الشعبي الذي ما زال يسكن في عقول بعض البشر، فتكشف عن كيفية التعامل مع تفسير المشاكل وعلاجها وتعامل بعض عقول المجتمعات مع الأشياء الخفية، واللجوء إلى الطرق التي يكتنفها الغموض والجهل. القصة متماسكة حيث تبدأ بالخروج إلى المطوع والانتهاء عنده، وما بينهما هو استرجاع لإضاءة الشخصية (منيرة) وحياتها الزوجية وانفصالها بسبب ضربه إياها مما أدى إلى أن يقوم أخوها بتطليقها، وبسبب ذلك تفقد أبناءها، القصة تنتقل بنا إلى بيت المطوع. وصف المكان لم يكن فقط لأنه مكانا يحوي القصة، وإنما جاءت به القاصة لتصوير أن الحالة ليست فردية، وإنما يشمل شريحة من المجتمع ينتشر فيها الجهل. منيرة تعيش غربة فعلاقتها مع الزوج والأم والأخ متوترة حتى مع أبنائها، المرأة المقهورة التي لا تستطيع فعل شيء، فهي تتزوج من رجل يكبرها بـ 20 سنة، وتُمنع من أخذ العلاج، هي كائن لا خيار له، وإن روت لنا القصة. المرأة في القصة تسرد، لكنها لا تستطيع التغيير، لا تمتلك القرار، ولا تحاول، هي امرأة مسلوبة الاختيار. وإذا انتقلنا إلى قصة البئر فنجد عنوان القصة يوحي بالمكان، والأمكنة متعددة، تعتمد القصة على استرجاع أحداث ماضية للشخصية الرئيسة، وتصور جوانب من حياة النساء حيث الهمز واللمز والنميمة، تنطلق القصة من موت رفعة وعلاقة النساء بهن، لتعود تسرد أحداثا مضت من تاريخ رفعة، وكيف حضرت. القصة تعالج رؤية الناس إلى الجن من خلال حالة مرض رفعة، يحضر فيها المكان بطقوسه وحديثه من النساء وتصوير أشياء البيئة والجني وتصوير بعض الحكايات وعادات الأهل غير المنطقية، والنهاية تكشف الحقيقة. القصة تختار أحداثا من زمن وسنوات طويلة، لتكون لوحة قصة مختصرة، مكانها البئر لتكشف جانبا من طريقة فهم الناس وتفسيرهم لبعض الأحداث. أما قصة البنات اللاتي لا يرغبن بالزواج فالزمن يحضر حضورا قويا متواريا. وهو قادر على تحويل بعض المفاهيم، ومنها المفهوم الذي يدور حول قيمة المرأة التي يتم اختيارها للزواج. الزمن يتحول ليس فقط عند الفئة الشبابية، وإنما التحول يكون عبر الجدة والتي تمثل تحولا كبيرا في النظرة إلى صفة المرأة، تقول الزوجة “من سينظر إليهن حين يصرن عوانس، سيعثر حظهن إما بكهل ذي طقم أسنان صناعية”، “ما شاء الله كل واحدة منهن تأخذ لها ثمانية آلاف”. فنجد تحولا في القيمة وفي المنظور، هذا ما تفعله القوة المادية في تحويل وتغيير التقييم، لم تعد المرأة في المجتمع كما كانت، بل أضاف العمل إليها قوة من خلال نظرة الجدة والتي يصعب تغيير نظرتها، لذلك اختارت القاصة الجدة لتصوير عمق هذا التحول الاجتماعي الذي يمارس حركته بفعل الزمن، لم يكن هذا التغير من الجدة فقط، الرجل يتغير مفهومه أيضا، وهذه إحدى التحولات المهمة التي ترصدها بدرية البشر في مجموعتها القصصية حبة الهال. مساء الأربعاء: مجموعة وسائل التقنية مساء الأربعاء مجموعة قصصية تتشكل من 11 قصة هي: اللعبة، القوس، كاميرة الفيديو، الشين، ذات خميس، الشبه، مساء الأربعاء، السطح، الذيب، البيجر، قماش. شكلت وسائل التقنية في هذه المجموعة جزءا مهما في أحداثها، والوصول إلى نهاية الحدث، واكتشاف اللعبة، وهنا تكمن أهمية قراءة هذه المجموعة في أنها وثقت جزءا من حياة الماضي، وكيف كان دور الهاتف القديم مهما في حياة الناس. كان الهاتف مؤرقا للرجل المريض في تلك الفترة، رنين الهاتف يشكل هاجسا وخوفا منه، وكان وضع المرأة سماعة الهاتف على أذنها يرسل إشارات الريبة، وإذا ما اقترنت المكالمات مع الليل المتأخر، فإن ذلك يزيد من التساؤل والترقب والريبة والشك بين الأزواج، يغدو الهاتف جسرا للتواصل وللأحاديث العاشقة والمحادثات المنوعة، ومن خلاله اكتشفت العلاقات التي قطعت حبال الود بين الزوجين، كانت المرأة في هذه القصص ترتاب من زوجها، والزوج يشك حين ترفع الزوجة سماعة الهاتف، لم يحضر الهاتف فقط، فقد حضر البيجر الذي كان مهما في فترة ما في حياة المجتمع، وحضرت كاميرة الفيديو في هذه المجموعة، وهذا من الملامح الجميلة في قصص مساء الأربعاء، والتي تكمن أهميتها في توثيق الحياة قبل أكثر من عقدين. جهاز البيجر يحضر في إحدى قصص المجموعة المعنونة باسم البيجر تقوم القاصة بتصوير البيجر وكيفية عمله في أول جمل القصة: “البيجر جهاز غريب”، والقصة توضح مدى تعلق الناس بهذا الجهاز “البيجر طفلي المدلل”. البيجر يساهم في ربط جسور العلاقات بين الرجل والمرأة، ومن خلاله يتم التواصل الغامض، وهو جهاز يزرع الشك إن كان رنينه متكررا، ويحدث ارتيابا وشكا كما حصل في القصة وساهم في تأزيم العلاقة في النهاية بين الزوج وزوجته. وحين ننتقل إلى قصة كاميرة الفيديو ففي هذه القصة توثق القاصة طريقة تعامل البعض مع هذا الاختراع العجيب من خلال المجتمع البسيط، فالزوج ينظر إلى الكاميرا بأنها مسجلة للذكريات، القاصة تختار الزوجة إحدى الشخصيات المهمة كنقطة انطلاق فيها، ومن خلالها تعبر عن طريقة التعامل مع هذه الآلة وكيف كانت ردة فعل الأبناء، وكذلك الأم والأب والزوجة. يرى الزوج بأن الكاميرا حين توثق الماضي والعودة إليها بعد مدة زمنية لا يعادل ذلك لذة. الزوج لا يخاف من الكاميرا، بل يلتقط الحدث الحميمي مع زوجته، يخلع كل الموروث الاجتماعي والديني والخوف من تلك اللحظات، يقوم بالتصوير، والزوجة تهرب عدة مرات في مواقف بسيطة، وهذا التناقض هو ما يجعل القصة مثيرة أثناء القراءة، وترسم لنا مواقف بسيطة من تعامل الناس مع هذه الآلة التي كان ثمنها باهظا، كانت النهاية صادمة جدا “عاد سعد واجفا، وشفتاه جافتان”. أما مساء الأربعاء فيتحول فيها الزمن إلى ألم، فالبيت لا يطاق، وهو زمن نفسي طويل متعب للزوجة، مساء الأربعاء لم يكن يوما للراحة والهدوء، كان يتحول إلى أرق ومعاناة وألم نفسي، ضاعف من ذلك وجود الزوجة معزولة مع أبنائها، هنا يتحول الزمن / اليوم من وقت للراحة إلى زمن مقلق خائف من المستقبل، يمثل كابوسا للزوجة “يا إلهي ما أطول هذا المساء!” هذا هو ما يأتي بعد ظهر الأربعاء، من خوف لما يحدث، مصدره الزوج المخمور، تقوم الزوجة بتخيل صور كثيرة لمآل الزوج. القصة تسرد من بداية الإجازة وخروج الأطفال والوحدة والقلق، الزوج هو ما يبعث الاستقرار لكن المفارقة أن الزوج هو مصدر القلق، الزوجة محاصرة بين الحاضر المرير والمستقبل المخيف، والإجازة التي تنفتح على الشر، والإجازة تتحول إلى عدو مخيف. أما قصة الذيب فالقصة فيها ترميز من خلال العنوان، والنهاية تتعاضد مع البداية حيث الغربة والوحدة ومحاولة الاقتحام من الذئاب التي تنظر إلى المرأة، القصة تصور مفهوم العلاقة بين الرجل والزوجة “ظل رجال ولا ظل جدار”. السيارة جزء من التقاء الزوج بالصديقة والهاتف دائما ما يكون هو الوسيلة الحاضرة في أقصى الليل المظلم حيث تتسلل الحكايات والغراميات والرغبات في سكون الليل، والهاتف هو منْ يكشف تلك الرغبات، فهي الوسيلة التي تخرج المرأة من هذا العالم المعزول خلف الجدران وشقاء الحياة والتربية. في “القوس” يتأكد دور الهاتف في تفعيل التواصل الخفي والعلاقات بين الرجل والمرأة، القصة تعكس شيئا من المرحلة عن طرق المعاكسات والتعارف ووضعية الهاتف ومدى قوة إرباكه في البيوت، الهاتف حينما يرن فإن رنينه يثير الشك والاضطراب حينما يكون الرجل ذا علاقات نسائية، فهذا الصوت يحدث توترا بين جدران المنزل، “هل هناك أمر يدعو عثمان للاتصال خمس مرات”، “هل هي فحولته التي يجربها هذه المرة على بيتي”. والقصة تتجه نحو النهاية سيرا متتابعا دون رجوع أو عودة أو قطع. وتبدأ القصة (اللعبة) بوصف المكان، وتوظيف هذا الوصف في تعميق الحالة الشعورية للشخصية الرئيسة والتي ينطلق من زاويتها السرد، “في البيت تتحول الشبابيك ذات الألواح المعدنية إلى سجن صغير”. فهذا الوصف يحملنا على متابعة القصة التي تحدث في مكان مغلق (الشقة) فيها الزوجة في حالة ثبات بينما الزوج هو المتحرك والذي يحضر ويغيب كعلامة للحرية التي يحظى بها، والزوجة تقبع وتُحاصر في هذا المكان، وليس لها سوى الهاتف الذي يخرجها من ضيق المكان، وتتأكد خطورة هذا الهاتف في هذه القصة “حين يكون هو في البيت، فإن الرد على الهاتف جرم تقترفه يدي إن هي حاولتْ”. الهاتف وسيلة للتواصل مع الآخر والخروج من نفق العزلة، وتستخدم القاصة التشبيه في تصوير خطورة هذا الجهاز. “فتدلى السلك الحلزوني مثل جسد حية تتهيأ لطرد حواء من الجنة”. فالزوجة تدرك أن هذا السلك يزلزل العلاقة، وتنتهي القصة بصور بلاغية موحية بمصير الزوجة “رحتُ أنظر نحو الشباك، كان الليل أسود، في الخارج والقضبان تلمع وتغرس التواءاتها في حلقي”.