
كثيرة النداءات التي توجه لحفظ التراث خوفاً من اندثاره، وهذه النداءات موجودة منذ سنوات طويلة، قد يكون ما اختلف عن السنوات الماضية هو وجود جهات رسمية لديها مشاريع فعلية لحفظ التراث، وهذا بحد ذاته ممتاز؛ فما كان بالأمس مطلبا أصبح اليوم واقعا، ورغم أن هذا الطلب أصبح واقعاً إلا أن النداءات مازالت مستمرة، بل إن وجود جهات رسمية تهتم بجمع التراث جعل الرؤية أوضح لنوع التراث المرغوب في الحياة العامة، فما تقوم به الجهات من تجميع وتوثيق يبقى داخل الجهة ولمن يبحث عنه من المهتمين، وهنا أوضح أن المطالبات لإحياء التراث حتى يكون موجوداً في حياتنا الفنية والثقافة والاجتماعية وليس مدونا فقط ، وبسبب هذه المطالبات التي أعتبر نفسي أحد المطالبين بها حاولت أن أقرأ الوضع العام في التعامل مع التراث/الشعبي، لأني أراه يعتمد على مزاج الفرد وميوله ، وذلك قياساً على ما نراه من أعمال فردية لنشر الأعمال التراثية/ الشعبية في شبكات التواصل الاجتماعي ، ولن أقول جهود ، فالفاعل لم ينشرها لإحساسه أنه يقوم بعمل رسمي أو واجب ، بل لحبه لما ينشر . سوف أركز هنا على الأغاني والحكايات الشعبية، فمع مرور السنوات وازدياد وسائل النشر زادت الحركة لإظهار كل شخص ما يحب، وكون أنه مازالت هناك نداءات لإحياء التراث / الشعبي فمعنى ذلك أن هذه الحركة الفردية في النشر لم تسد الاحتياج المطلوب للمهتمين. أعتقد أن هذا القصور يحتاج لبحث ودراسة ، فمن خلالهما سنعرف أنفسنا وليس ما نتمنى أن نكون أو نتصور ، فربما أن التراث / الشعبي ليس له قبول إلا لحظي ، في وقته فقط ، أو ربما ان التعاطي معه يقتصر فقط على السائد والشائع ، لأننا هنا نتعامل مع ميول الشخص التي تظهر وتعبر عن نفسها دون دعوة أو دعم ، فمثل هذه الميول علاوة على اعتمادها على الميل الفني تعتمد أيضاً على تراكم الذاكرة والوجدان اللذين يولدان شغف المعرفة والتنقيب في تفاصيل ما تحب ، وسأقرب الأمر أكثر ، مثلاً هناك شباب في العشرينات يحبون فناناً معيناً مثال عبادي الجوهر ، فتجدهم يعرفون مجمل أغانيه حتى النادرة والمجهولة ، ويتتبعون جلساته التي تخطت بعضها أربعين سنة وينشرون هذه النوادر مع تعليقات فنية تختص بنغمة الوتر ، أو نبرة الصوت في مقطع مدته ثواني ، وأن كان تسجيل مرئي يقرأون إيماءات الوجه وتعابير العيون والتفاعل مع الجمهور وهكذا، الميول أخذ هؤلاء الشباب إلى أدق التفاصيل لفنانهم المفضل ، فهل هذا التتبع لأن الفنان عبادي يعيش بينهم اليوم ؟ لا أعتقد ذلك والدليل أنهم لم يكتفوا بالمتاح والمذاع من أعماله، بل لديهم أغان وجلسات ربما أن عبادي نفسه لا يتذكرها، إذن.. انتفى سبب الوجود والحضور. مثال آخر، كوني محبة ومهتمة بالفن الشعبي أتعَرف على شخصيات كثيرة عبر شبكات التواصل نتشارك هذا الحب، وقد تفاجأت عندما تعرفت على أكثر من شخص من مواليد الألفية يعشقون فنانات شعبيات سعوديات منهن من غادرن الحياة، وهم مازالوا رضعاً أو في سنواتهم الأولى، وأولئك الفنانات حسب ما نعرفه لا تذاع لهن أغان ابداً في القنوات الرسمية، وليس لهن تسجيلات مرئية متاحة للجميع ، ومع هذا فإن لدى هؤلاء الشباب الصغار أرشيفاً كبيراً ورائعاً لا نجد نصفه عند الأجيال التي عاشت زمن الفنانات ، كيف حصل هذا ؟! بدافع الحب والشغف والمزاج. في كل المقالات التي كتبتها عن التراث كنت أعتذر مسبقاً عن خطأ المعلومة إن حصل، أو لعدم إدراجها كاملة لعدم توفرها رغم بحثي المضني عن كثير من المعلومات بدافع الفضول ولكن لا أجدها ، لعدم تدوين الناس لها ، وأنا هنا حديثي عن الناس وليس الجهات ، لأن تفاعل الناس هو الذي يخلق الجو العام ويشعرك بجود التراث حولك وسهولة الوصول لما تريد فهو حالة ملموسة ومنتشرة ، صحيح أنه يستحيل تغطية كل التراث ولم يطلب أحد ذلك ، حتى الدول التي يهتم أفرادها اهتماماً فردياً بتراثهم ، يشتكون ويخافون اندثار الذي لا يتم تداوله ، مثل شكوانا ، ولكن نسبة ما نفتقد أكبر، لماذا ؟ أرى أن في هذه الدول تكاتفاً عاطفياً ضمنياً في حب التراث ونشره ، فتجد أفراداً يكتبون في شبكات التواصل في مواضيع مختلفة تصب في الإرث الشعبي ، وتجد برامج تلفزيونية تفتح نقاشات معديها ومذيعيها المشبعين بتفاصيل تراثهم ، وتجد إنتاجا سمعيا (بودكاست) خاصا يدور حول الأعمال التراثية والإبحار فيه، وتشاهد أعمالا درامية تقص الحكايات الشعبية وتعرض أغاني التراث في سياق درامي جذاب ، هنا أصبح الأمر حالة عامة موجودة وملموسة وإن لم تغط كل التراث ، ولكن الأمور بطبيعتها تتوسع وتكبر ، فما لم يتم تغطيته بالأمس وأشبع بالنقاش سيذهب الشغوف للبحث عما لم يتم اكتشافه بعد . كثيرا ما أسمع وأقرأ عن صناع دراما محليين يطلبون ترشيح قصص تراثية!! أكاد أصعق عندما أسمع أو أقرا مثل هذه المطالبات، هذا يعني أن المتحدث لا يعرف شيئاً في موضوع التراث والقصص والحكايات الشعبية! لماذا؟! المشكلة أنه في حالة ترشيح قصة ما في الغالب لن يستطيع تنفيذها كما ينبغي، لأن هذه الأعمال وغيرها تحتاج لمعرفة تراكمية. عندما بدأ الاهتمام بالأغاني الشعبية القديمة وتم تجديدها وتوزيعها بشكل حديث، لاحظنا أن التركيز كان على عدد محدود جداً من الفنانين، رغم وجود عشرات من المطربين ومئات من الأغاني الرائعة، لماذا هذا بالتحديد؟! في ظني أن الأمر ليس فيه ضد أو مع أحد، ولكن التذوق الفني والمعرفة الطربية بسيطة وقاصرة، وهذا انعكس على الجمهور الذي لا يحمل ميول للأغاني الشعبية والتراثية، ولكنه قد يحب مجاراة بعض الأحداث الخاصة بهذا الجانب فلا تراه يتجاوز إلا ما قُدم له، وهذا ما يجعلنا نعيش في دوامة الترديد والتكرار لعدد محدود من الأغاني. البودكاست السعودي، هذا المجال جعلني أفكر في أمر آخر قد يكون ساهم في عدم وجود التراث / الشعبي في الجو الثقافي العام وقلة إن لم تكن ندرة البودكاستات التي تعني بالتراث سواء القصة أو الأغنية. لا تجد بودكاست يناقش هذين المجالين عن فهم ومعرفة وتذوق، قد يتم تقديم حلقة أو اثنتين، ولو كنت متابعا ستعرف أنها جاءت في سياق تنوع الحلقات ومجاراة ما يتردد في الأجواء العامة، فلو توفرت هذه البرامج المرئية والمسموعة بكثافة ومعرفة فنية وضيوف لم يتم استهلاكهم، وأسئلة مختلفة، لخُلقت حالة عامة منتعشة بالتراث . يميل الإنتاج السمعي ( البودكاست ) الى أن يأخذ صبغة الثقافي، لذا يذهب لنقاش الأمور الثقافية، ومن الأمور المؤسفة أنه عندما تتابع بعضها تجد بساطة المذيع المعرفية والثقافية وأنه غير ملم بما يطرح إلا بطرف من المعلومات وأنه يعتمد على معرفة ضيفة واسترساله هو لملء زمن البرنامج، وأنا متأكدة أن من يقرأ هذا الكلام سيأتي في ذهنه عدد من أسماء البرامج الحوارية الخاصة ، إذا سلمنا بهذا الأمر وتم نجاح برنامج أو حلقات لمذيع ضعيف، فلماذا لا يتم تنفيذ حلقات عن التراث / الشعبي حتى وأن كان المذيع ضعيفا ويعتمد على الضيف ؟! هنا أعتقد أن الصيت والسمعة لبرنامج ثقافي أفضل من سمعة برنامج شعبي، واستشهد برد الدكتور سعد الصويان صاحب الجهود الملفتة والجبارة في جمع وتوثيق التراث عندما سُئل عن الصدامات التي واجهها أثناء جمعه للتراث: “تم وصمي بأنني إنسان شعبي في طريقة تفكيري وأسلوب حياتي ، وأن ما أقدمه لا يختلف عن برنامج البادية وما أشبهه من برامج توكل عادة لأشباه الأميين ، بالإضافة إلى أن الجانب الساخر من شخصيتي قد يعطي انطباعاً بأنني سطحي التفكير ، لأن الجد في ثقافتنا مرتبط بالتحذلق والتشدق “ . قد يقول قائل أنه في كل نشاط تراثي / شعبي يزدحم المكان بالزوار والتفاعل ونشر المقاطع عن النشاط، وهذا صحيح، ولكن كل هذا التفاعل ينتهي بنهاية النشاط، رغم أنه تم تقديم جرعة من التراث قابلة للاستمرار والتطوير ، وهنا ينطبق على النشاط التراثي ما قد ينطبق على غيره من الأنشطة التي ينتهي أثرها بنهاية مدة النشاط ، أي أن التفاعل كان لحظيا. يقول الفنان عبادي الجوهر في لقاء قريب معه أنه لا يستخدم حالياً في التلحين سوى 30% من التراث السعودي، وأن ما يسمعه الآن من أغاني لا تشبهنا ولا تعكس تراثنا الزاخر! إذا كان القادرون على حفظ التراث وإحضاره لم يفعلوها في أعمالهم ما جعل فنانا مثل عبادي يستنكر هذا الأمر، فإن علينا أن نسأل: لماذا؟! أختم بما بدأت به أنه لابد من عمل دراسات وأبحاث على تلقي الفرد واهتمامه، فالنداءات بحفظ التراث قد تحفظه في الورق والمكتبات، ولكن قد يختفي من الحياة العامة إلا في المناسبات ، فهو لا يبرز بالتوجيه والتلقين ولكن بالحب والرغبة ، عندما تنساق مشاعرك لا ارادياً خلف القصص والحكايات أو الايقاعات والأغاني وغيرها ، وآمل ألا يقول أحد إن الحياة تغيرت وأصبحت تغريبية ، فالحياة تغيرت على الجميع ولكن مازال هناك من يردد تراثه في حياته اليومية .