محمد زايد وإدريس جماع وأسماء أخرى.

(1) قال ذات مرة، وفي أمسية كبيرة ومشهودة بالرياض، وكان يقرأ شعراً مع كبار من شعراء الحداثة، أحدهم الثبيتي رحمه الله، والآخر الصيخان، قال الألمعي: لا نحب أحد.. غير هذا البلد! فوقف أحد غلاة التشدد حينها، وسأله: -من الذين لا تحبهم؟ رد بشجاعة: - ببساطة كل من يعتقد أني لا أحبه، فأنا لا أحبه! كان عاليا ورفيعاً وشامخاً، فكراً وشعراً. علاقتي بمحمد زايد الألمعي، تمتد في عمر الوقت والمعنى، أما ليلة رحيله، فقد حاصرني لسبب لا أعرفه، فأعدت تغريدة تتحدث عن حاله، وردت في مشاركة له في أمسية شعرية مؤخراً بأبها، اتصلت بالصديق أنور خليل، لعله يفيدني عن سؤالي، فقال حينها: -رحمه الله قلت بغرابة: -كيف؟ فرد بسؤال أكثر غرابة: -ألا تعلم بأنه رحل عن دنيانا رحمه الله البارحة؟ لم أكن قد شاهدت وسائل التواصل، ولم أكن أعلم عن خبر رحيله، لكني قبلت أن أتجرع الوجع، يمضي في شراييني رويداً رويداً ، وأفكر في اللحظات والليالي ، التي جمعتني بشاعر ومفكر وإنسان كبير جداً ، وأكتشف أننا من سنوات بعيدة لم نلتق ، وكنا نلتقي لما كنا شباباً ، ولست أعرف هل كبرنا ؟ أم أن غربة محمد زايد الألمعي ، وسفره الدائم فرق بيننا ، وهو على كل حال في حضوره وغيابه ، لا يمكن أن يغيب عن الذاكرة، فمثله يفرض حضوره مهما ، كانت الأسباب حتى في الغياب ولا أقول الرحيل.. تمتد صلتي بمحمد زايد مبكراً ، فكان أول من تلقف نتاجي السردي ، وقدمه لنادي أبها الأدبي ، ممثلا في مجموعتي الأولى البديل ، ولما رفضها غلاة التشدد ، بحجة أنها تنتمي إلى العالم السيريالي ، ولا يجب إلا أن ننتمي إليهم ، أرسل لي تقريرهم ( السري ) ليكون ، وصمة عار في وجوههم ، ثم أنه كان مقرراً أن يكون مديراً لأمسية سردية لي ، في نادي أبها لمواجهة هذا التيار ، لكنه تأخر وجاء في منتصف الأمسية ، ليتفضل الأستاذ محمد عبد الله الحميد رحمه الله رئيس النادي ويدير الأمسية ، ويجابه تياراً لم يكن لي حيلة ، بمواجهته بدون وجود محمد زايد الذي صنع تلك الفخاخ المؤجلة. وظل ملازماً لي ثلاثة أيام في حلي وترحالي في أبها حتى غادرتها. ما الذي كان، يمكن أن أقوله عنه في يوم رحيله رحمه الله وغفر له؟ ، المؤكد أنه باق معي ، ويتمدد كالعادة في شرايين الوقت ، وأستحضره الآن، فالذكريات تنقاد كسحب سوداء ، ممطرة تهمي على الذاكرة ، وعالمه الشعري الذي لم يطبع ، وقرأت بأن وزير الثقافة وجه بجمعه وطباعته، ولست أعرف إلى أين وصلت مثل هذه الخطوة المهمة ؟ ومحمد زايد أكبر من أن أرثيه في حينه بكلمات عابرة ، وقبله رحل سلسلة من الأصدقاء العظام ، وسيأتي اليوم الذي سنرحل فيه ، ولن يبقى لنا إلا أعمالنا، إذا كانت خيراً فخير، وإذا كانت شراً فشر. رحم الله محمد زايد وغفر له، واسكنه فسيح جناته، وهو القائل : سأموت قليلاً وستحزنون مؤقتاً وبعدها ستحتفلون وتتحدثون عن عمق سخريتي وذكاء التافه من أقوالي وسوف تتجاهلون القصائد التي أحببت وتبررون أخطائي والشعر العظيم الذي لم أقله بعد!! (2) عندما ذهبوا بالشاعر السوداني “إدريس جمّاع” إلى لندن للعلاج، أُعجب بعيون ممرضته، وأطال النظر في عينيها ، فأخبرت مدير المستشفى بذلك، فأمرها بأن تلبس نظارة سوداء ، ففعلت ، وعندما جاءته نظر إليها جماَّع ، وأنشد يقول : والسيف في الغمدِ لا تُخشَى مضاربُه ... وسيفُ عينيكِ في الحالين بتّارُ! وعندما تـُرجم هذا البيت للممرضة، بكت بشدة، وقد صُنف هذا البيت بأنه أبلغ بيت شعر في الغزل في الشعر العربي في العصر الحديث. وعندما سمع الأديب عباس محمود العقاد رحمه الله هذه الأبيات طرب لها، فسأل في دهشة ووله، عمن نثر هذه الأبيات دررا؟ فقالوا له شاعر سوداني اسمه إدريس جماع، فسأل أين هو الآن؟ فأجابوه: في مستشفى مصحّة نفسية، لما أصابته قسوة الحياة بصلفها، فعزف عنها واختار الجنون، ليفرّ بخياله إلى دنيا أحبّ إليه من دنيانا، فقال: هذا مكانه دون أدنى شك، لأن من يُشعر بهذه العبقرية، فهو مجنون (كمجنون ليلى)، لعمري، إن هذا الكلام لا يقوله عاقل! أما تجربتي مع العيون فتختلف تماما، وممرضتي اسمها (ملاك) وهي اسم على مسمى، جمالها، رقتها، شخصيتها، أربعون يوماً تعرضني للإشعاعي، فضربت معها وعداً، لتسمعني فيروز من جوالها، كلما خضعت للإشعاع كل يوم، وتصر بأن أكتب لها كل يوم بيت شعر مقابل ذلك، حاولت أن أقدم لها هدايا وروداً ، وشكولاتة ، وكتباً ، لكنها رفضت فاستسلمت لرغبتها ، وكتبت لها كلمات ، أرجو أن تليق بها : أرى عينين سحرهما شعاع وعشق القلب سر لا يذاع ملاكٌ، أنت يا رسل السماء ملاذٌ في أناملك الشفاء شجن فيروز إذا غنت عتابا حسبت الله يلهمني صوابا ملاك، واصلت عرضي للإشعاعي، وظلت كل الزمن الذي بقيت فيه بين يديها وفية، تسمعني فيروز بلا طلب، لكنها صارت تغادر مكان الإشعاع فوراً، وتتركني بلا هوادة وحيداً، دون معرفة السبب ؟ صرت أبحلق في سقف الغرفة، وصوت فيروز وحده، ينقلني إلى عوالم وفضاء بعيد، وصارت الكلمات في فمي، بلا معنى، استجدي أي صدى لها من ملاك!