أشكالُ طرْقةِ البَاب.

الطَّرقاتُ التي لا تُشبِهكَ لا ألتفتُ إليها. ستسألني حتما عن أشكال الطرقات الأخرى، وأُجيبكَ بحدسي حين تقف خلف الباب؛ إذ يستحوذُ شَبهُكَ على المكان حتى ينعكس على التفاتي. لكنَّ الطَّرَقاتِ عموما مزعجةٌ أيا كانت… في الطرقة الأولى استئذان، وفي الثانية تأكيدٌ يوشك التخلّي عن حيائه. في الثالثة إلحاحٌ مبدئي، والرابعة إزعاجٌ صِرف. والمرة الخامسة في كتاب الله لها وضعها الخاص، أتذكَّرُها وتُضحِكُني قليلا، كأنها جواب محكومٌ بقبْضةٍ نافذة... وهناك طَرْقُ الماء، ما لا يتوقف عن القرْع، كاتصال الماضي بنا، كنهرٍ ضالّ، كوجهٍ بغيضٍ لا يكفّ عن المسألة... وما أصعب تحوُّل كل ذلك إلى الهواتف؛ حيث يتشبَّثُ المخذول هناك كالغريق، وصاحب الحاجة لا يكلّ... وأنا تعرفني، أو كما تعرفني! أهرب من بيتي، وأتباعد عن نفسي حين يزاحمني عليها أحدٌ، ولذا فررتُ إلى اللاشيء حتى يُفرِغونني لي... أتلمَّسُ السكينةَ في أكثر الأوقات هجرا، آوي إلى المعتزَلَات، وأتَنَسَّكُ بالخلوات بُغيةَ وُصُولٍ خام... أقطَعُ طريقهم إليّ بما تراه إجحافا لي ولك ولآخرين وللأشياء… هذه أنا، وهذا شبهي بنفسي، وهكذا ألتفتُ إليّ. آنَ لنا الاعترافُ باستحلال وجهِ الصخب لأولئك الذين نعرفهم، ومن لا نعرف أيضا. توحّدوا تحت ألوية الاتصالات، شبكات المعلومات تغذي طرقاتهم على الأبواب طيلة الوقت، وأصواتُ الرنين تُضاعِفُ خطورةَ أقنعَتِهم. استعارَتْ حناجِرَهم، وأدمَتْ أُذنيّ بصوتٍ موحّدٍ يختصرهم جميعا... تَوافُقُ الأشباهِ يرعبني، ما عدتُ أميّز وجها من وجوه الإزعاج السائل، وشَبَهُك بعيد عن ذلك… أشعر أحيانا بأنني لا أرى، أو لفرط بصري ضلَّ عقلي. العقل هو من يرى والعين أداة، وقوائم الأصدقاء في كل نافذةٍ رقمية تصيبني بالرهاب، كلهم أصدقاء، هكذا ببساطـة… أصدقاء ولا جدال، وبضغطة زرّ -ولو سهوًا- تنتفي علاقات وصداقات، بالبساطة ذاتها. يفوتني الوقتُ لاستدراك ما أبطأ به فهمي، أتساءل عن المدة اللازمة التي يحتاجون إليها في جَمْع أوقاتهم الطويلة هكذا… كيف لا تنفرط حبّاتُ أرواحهم في هذا العالم؟! كيف يعودون إلى ذواتهم آخر اليوم؟! وحين يُأرجِحون أرجلهم بين اللحاف وطرف السرير ثم لا يسقط شيء منهم؛ أسائل نفسي عن الكيفية التي تمكّنهم من العيش هكذا بلا تخلٍّ… أستفهِمُ عن انطراحهم في مناماتهم بهذا العمق، متمسّكين متشبّثين… يواصلون الطَّرْقَ على حيوات الآخرين، يجرُون خلفهم في الأحلام، ويكملون جريهم في اليوم الثاني... وأطراف أسرّتهم دافئة من مساعيهم كأنَّ أيامهم لا تنقضي. أتساءل وقدماي تتأرجحان أيضا، أبحث عن أرض لا تُسقِطنُي بأفكاري... وأرقبُ ما تساقط حتى أعرف موضع اختلافي عنهم… على طرف سريري أجلس كل ليلة، أبحث عن أجوبة تأوي معي حين أنام. اللحاف البارد رحم عقيم يُوقِف دورةَ الحياة، وما زلتُ أُدفئ قدمي بعد كل منام يعقِدُ لساني. مناماتي ليست خالية تماما، ثمة وجوه تحاول ملاحقتي فيها، أعرِفُ حياةً أخرى لم أقبض عليها بعد؛ يحاولون سلبي إياها، وهي اللي تبدأ حين أنام... حيث لا يطرق عليّ فيها أحدٌ لم أفتح له بابَ أحلامي، وأنظر له بعينين ورديّتين لا تلائم حياتي هذه التي تعرفها. هناك أقاتل أيضا، لئلا يُسرق الكُحل من مقلتي. أشارك نفسي موقعي أحيانا، أودُّ رؤية موضع قدميّ لأطمئن لألف فكرة مجنونة تذكِّرني بذاتي، أحسِبُ مسافاتٍ أخرى، أجمع ما أعرفه عني منذ زمن، ولم أهتدِ بعدُ إلى طريق الخروج. ولا شيء يدلّني عليّ. رحلة أسلافي إلى الضلال رحلتي، لهم صحاريهم ولي صحرائي، أنا التائهة الآن بأكثر من طريق، خياراتي مطروحة لأنها معدومة سلفا، أعرف ما لا يعرفون ولم أنجُ بما عرفتُ، لعلي هلكت بما عرفتُ أكثر من هلاكي بجهلي، جهلهم الصافي ينقصني، ومعارفهم تتبعها وما أبعَدَني. لا تأكيدات بخصوص هذا الواقع السافر إلا إنه سافر جدا، ومع ذلك أبقى مرغمَةً بوجْهٍ لا أطيقُهُ، متّصلةً مثل البقية، متنصّلة بطرائقي كما يليق بي. يدي عاجزة عن الاحتفاظ بحق الردّ أغلب الوقت، فمن هو دون الباب في هذا العالم لا يملك سوى الاحتفاظ بإغلاق أُذنيه جيدا، لعلّ الطرقة حينها تكون كالعدم... وإنها أوهامُ من لا يريد البقاء متّصلا، تعرفني وتعرف شعاراتي، أكتُبُ كثيرا مما أنساه في حياتي هذه، لأنّ الحياة التي تبدأ حين أنامُ لا تعترف بما لا أطيقه هاهنا؛ في حياتي هذه التي تعرفها… كمعاني الطرقات، ووجوه وأعداد لا تخصّني، وأسئلة مزعجة متطفِّلة لا تأتي بها طرقةٌ تشبهك؛ حيث تكونُ كأحلامي، كطرف خيط ثانٍ إلى حياتي الأخرى التي تبدأ حين أنام. تطرقُ الباب، وأعرِفُ لحظةَ مجيئك جيدا من طرقتك، بانعكاسك على ما حولي، وحين تسيطر على المكان أشباهُكَ؛ إذ تتسرَّبُ من طرقتك على الباب، فكيف لا ألتفِتُ؟!