حكاياتهم وحكاياتنا.

يتساءل فرويد بعد كشفه العظيم في النفس الإنسانية (اللاوعي - الهذا)عن الحضارة كيف بدأت؟ كيف تمدن الإنسان وترك حرفته الأولى في الجمع والصيد وانفصل عن بقية الحيوانات؟ كان الجواب صارخا ومدهشا في نفس الوقت. قبل أن ينتقل أسلافنا إلى الحضارة اخترعوا التابو “المحرم”. عندها وضعت أول بذرة للثقافة التي هي لازمة من لوازم الحضارة. يبحث الأنثروبولوجيون عند دراستهم لأي مجتمع من المجتمعات عن التابو (المحرمات) كجزء أساسي من دراسة المجتمع، ويسيرون دائما على قاعدة (الطبيعة تمنح وتعطي، والثقافة تحرم وتمنع). عندما نسمع الحكايات عن المجتمعات البدائية أو حتى الحكايات التي مر عليها ألف سنة أو خمسة قرون تعترينا الدهشة عن أسلافنا وأجدادنا، ولكن لا نرى في ذلك تابو، مجرد حكايات. لم تكن حكايات أسلافنا مثيرة أو مسلية. بل عجيبة وأحيانا بشعة وأحيانا تشبه كثيرا حكاياتنا. أذكر مرة في رمضان جاءت زوجتي ووضعت أمامي القرآن وقالت: اقرأ ودعك من هذه الكتب التي أفسدت عقلك. وضعت الكتاب وكان كتاب قصة الحضارة لـ ويل ديورانت. وضعت الكتاب لأنني أنهيت قصة ذكرها ديورانت عن الحضارة اليونانية قبل دخول المسيحة إلى أوربا. كيف كانت تقدم القرابين للآلهة. كان المشهد بشعا جدا. تأتي الأم بوليدها البكر وترمي به في النار قربانا للآلهة، وعندها يطلق الكاهن نفخة قوية في البوق كي لا تسمع الأم صراخ طفلها. لم أستطع تصور المشهد أبدا، لذلك وضعت الكتاب. أمسكت القرآن وبدأت أقرأ لأتوقف عند آية في سورة الانعام (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (137). عندها توقفت عن قراءة القرآن، لأنني اندهشت من هذه الصدفة العجيبة. في نهاية هذا الجزء الذي ذكر فيه ديورانت القرابين والحروب والأعداد المهولة التي يؤتى بها للموت، وإن على الإنسان الحاضر أن يسأل نفسه (يا لله كيف نجوت؟). يذكر جميس فرايزر في كتابه الغصن الذهبي عندما ذهبت الإرساليات التبشيرية إلى أمريكيا اللاتينية، تفاجأت من تشابه طقس شرب دم المسيح مع طقس احدى القبائل الهندية عند نهاية الحصاد. حتى ان أحد القساوسة أخذ يسألهم: من أين لكم هذا؟ ...كيف تشابهت الحكايتان؟ كان أبي أمين مكتبة المدرسة، كنت في الرابعة عشرة عندما مسكت أول كتاب في يدي وأخذت أقرؤه. غضب أبي، وأخذ الكتاب مني لأنه كتاب يحوي على قصص مخلة بالأدب ولا تصلح لمراهق. والحقيقة أنها قصص في غاية الأدب لكنها تحوي قصصا جنسية كتبها الشيخ علي الطنطاوي في شبابه. وفي نفس الصيف أخذت كتاب العقد الفريد لابن عبدربه وأخذت اقرؤه، لم يغضب أبي ولم يأخذ الكتاب مني. بل تركني أكمله. ذكر ابن عبدربه بابا كاملا عن السباب والشتائم عند العرب. ضحكت واستمتعت بقراءة ذلك الباب. لم أصدق بأن الوضع قائم كما هو. سبابنا وشتائمنا هي سباب وشتائم أجدادنا قبل ألف عام. عمنا شيخ الحكائين خيري شلبي في إحدى رواياته ((موال البيات والنوم))، عندما أراد أحد أبطال الرواية إفساد فتاة، أخذ كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني وأخذ يقرأ منه مقاطع خليعة كي تلين الفتاة وتستجيب لرغباته. قالوا لي إنك في المعارض الدولية للكتاب ستجد الكتب الممنوعة التي لن تجدها في أي مكتبة محلية. لا أخفيكم سرا أنني من أشد لمعجبين ب بلال فضل وحكايته. وأنني استمتعت جدا عندما قرأت روايته الاولى (أم ميمي)، وكنت أتمنى أن تفوز بالبوكر. سالت عامل المعرض في إحدى المعارض عن أم ميمي، فقال لي إنها موجودة، ولكنها ليست معروضة، وعلي أن أدفع مقدما، ثم سيغيب برهة، ثم سيأتيني بها. كأننا نتعامل مع ممنوعات “تابو”. تركته ومضيت. كنت أمشي وأبتسم وأعد دور النشر التي تضع كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني، والعقد الفريد لابن عبد ربه في واجهة معارضها. ما الفرق بين شتائم أم ميمي وأبطال رواية بلال فضل وما ذكره ابن عبد ربه في كتابه الجميل والمفيد العقد الفريد؟ ما الفرق بين قصص علي الطنطاوي التي حكاها في شبابه وبين ما ذكره أبو فرج الأصفهاني عن مجون وخلاعة ذلك الزمن الذي عاش فيه؟ ما الفرق بين قسوة الحياة هناك في الحضارة اليونانية حتى اضطرّوا إلى تقديم أطفالهم قرابين للآلهة كي تخفف عنهم تلك القسوة وبين قسوتها على محمد شكري في طفولته فكتبها في روايته الخبز الحافي؟ لماذا نخجل من حكايتنا ونصنفها كـ “تابو” ولا يخجل أسلافنا وأجدادنا من حكاياتهم؟