في كتاب « الطعام والكلام » للأكاديمي سعيد العوادي ..
بين الوجودية المعيارية والبلاغية التأويلية .

«مِنَ الدُّرُوسِ التي يُعلّمُنا إيّاها كِتَابُ “الطّعَام والكَلام” أَنَّ الكِتَابَةَ مَحض عَمَلِيّةِ طَبْخٍ تَامَّةٍ ومُتَكَامِلَةٍ لِمَـوادَ عِلْمِيّة مَعرِفِيّةٍ مُنتَقاة» (د. سعيد العوادي، الطعام والكلام، ص: 278) عندما يقفُ القَارئُ النَّهمُ بمحاذاةِ مُصَنَّفِ الطعامِ والكلامِ: “حفرياتٌ بلاغيةٌ وثقافيةٌ في التراثِ العربيِ” الصَّادِرِ عَنْ دَار أفريقيا الشرق، سنة ألفين وثلاث وعشرين للميلاد، والذي وَصَلَ إلى القَائِمة الطوِيلَة لِجَائزة الشيخ زايد للكتاب، فَرع الفُنونِ والدّرَاساتِ النَّقديّة؛ يَجدُ بِأَنَّه يمثلُ نزوعَ كاتبه باعتبارِه مثقفا مغربيا إنسانيا نحو منزعٍ تهذيبيٍ تشذيبيٍ للتراثِ، ملتزما مسلكا َوعِرًا يبغي به التجديدَ، وذلكم بالاشتغالِ على حفرِ التراثِ بوصفه وعيا فكريا خَلَّاقا، يمتاحُ إرهاصاتِ الإيجادِ والتكوينِ من أصالةِ التفكيرِ الاستقرائي. مع إكسابِهِ بُعدا تداوليًّا؛ يحيلُ المعنى المعلومَ إلى مضمراتٍ نسقيّةٍ مغيبّةٍ، تحملُ العقلَ والفكرَ على الاجتهادِ في تبيينِ مَدَالِيلها القيميّةِ والنفسيّةِ والاجتماعيّةِ والفكريةِ والاقتصاديةِ وكذا الحضَارية. ومن خِلال مُطالَعَةِ مُفتحةِ الكتابِ؛ تَرتسم الـمَعَالِمُ الأُوّل، تِلْكَ التي تُزكِّي نَسقِيّة بلاغةِ العقلِ الـمُؤسِّسَةِ لِلْمَعنَى القَاعِدي الـمَركُوزِ في دَالّةِ اعتِلَاقِ الطعام بالكلام، يَقُولُ البَاحِث سَعيد العوادي: «وقد يكونُ من التداعي الأولِ الناتجِ عن قراءةِ مفردتي الطعامِ والكلامِ في عنوانِ الكتابِ أن العلاقةَ بينهُمَا لا تعدو أن تكونَ علاقةً صوتيةً بديعيةً والواقعُ أن بينهما من الصلاتِ المتوثقةِ ما يتجاوزُ الصوتَ إلى المعنى اللغويِ والدلالةِ الحضارية ... إنها علاقةٌ خلافيةٌ يحيا بها الكائنُ الإنساني، فالطعامُ حصنُهُ الماديُّ ضدَ الجوعِ والمرض، والكلامُ حصنُهُ المعنويُّ ضدَ الوَحدةِ والخواء، وعندما يلتقي الطعامُ بالكلامِ، يتحققُ الدفءُ الإنسانيُّ بمعانِيهِ المختلفةِ في الحضارات البشريةِ المتعددة؛ لأن الطعامَ ليس مادةً قُصَارَاهَا أن تهضم، ولكنها مادةٌ تسعى إلى أن تتكلم، كما لا ينحصرُ دورها في بناء الذات، وإنما يمتدُ إلى بناء الحياة». ولأن الدكتور العوادي على وعي بأنه ما من كاتبٍ إلا ويكاتب، والمكاتبةُ بهذا المعنى تجربةٌ تفاعليةٌ إدراكية، وعلى ذلك قام بتصريف البعدِ الإدراكيِ أثناءَ وصلِهِ بين الحِلق المعرفيةِ الطعاميةِ والحلقِ المعرفيةِ الكلامية، لبحثِ الجزئياتِ التي تتعلقُ بعمقِ الظاهرة سواء على المستوى الدلالي البلاغي أو على المستوى الواقعي وما يُحيل عليه من قيم اجتماعية وثقافيّة، بشكلٍ لا يحضرُ في الجانبِ المغيبِ ضمنَ المعارفِ المَسُوقةِ على عجلٍ في بابه، بل في الكتابِ تفتيتٌ، وهنا يتبدى هذا التصريفُ للبعدِ الإدراكيِ الذي يحللُ البياناتِ ويغوصُ في البنى العميقةِ من التفكير، فكان يعرضُ للصريحِ والضمني، للظاهر الجلي، وللخفي في النصوص الطعاميّة التراثية، مع استعانَتِهِ بالتأويل القرآني. وفي تفاعلِه مع التراثِ البلاغي والثقافي العربي الطعامي والكلامي؛ عَمَدَ إلى نقل الجانبِ الإدراكي الحسي ولا سيما المنظور منهُ والقائم على حاستي الذوقِ والشم، إلى الجانبِ الفكريِ التجريديِ متجاوزا المسألةَ السطحيةَ إلى مسائلَ أكثرَ عمقًا، لأن جوهرَ الإدراكِ الحكمُ والقدرةُ على التمييزِ المركوزِ في البعدِ التصويريِ للمعارفِ والعملياتِ الذهنيةِ الموكولةِ إلى الذهن، وقد تعاملَ مع المعلوماتِ الواردةِ بملاحظتِها، وتسجيلها، ثم تحليلها وذلك باستثمار قدرةِ الذاكرةِ على استعادةِ المخزونِ المعرفي، ثم تفسيرها وتأويلها. ومما توسلَه أيضا المعنى الحسيُّ المطبوخُ كما ترجمَهُ أستاذُ المنطقِ وفلسفةِ العلمِ الدكتورُ صلاح عثمان. فبدا مفهومُ الإدراكِ جليا في معالجاتِ الدكتور العوادي، من منطلقِ علاقةِ الذهنِ بالتجربة المجسدِنة للانفعالاتِ والعواطف، والتجربةِ الخارجيةِ من حيثُ الاتصالُ بمحسوساتِ العالم، فثمةَ عنده ارتباطٌ بين اللغةِ والذهنِ والتجربةِ الإنسانية، من خلال “الطعامِ” من جهةٍ، و”الكلام” من جهة أخرى. مُظهرا بنهجِ الخبيرِ الماهرِ أن الكلامَ يخضعُ بكيفيةٍ ما للمدركِ من المأكولِ والمشروب، فالمتكلمُ لا يصفُ الطعامَ إلا من منظورِه الإدراكيِّ الذي قد يتطابقُ مع كنهِهِ، وقد لا يتطابقُ في أحايينَ كثيرةٍ، وهذا يؤكدُ فكرةَ جَسْدنَةِ المعنى المدركِ من المأكولِ والمشروب؛ في علاقتِه بالكلام ووسمِهِ بالإدراك الحسيِّ المطبوخ. وفيه ثمةَ أوابدُ المُدركاتِ لعدمِ القدرةِ على إدراكه مجردا في نسقِ تجريدي، ولأجل ذلك مدَّ تصورَهُ بجسورِ طعاميةٍ من الطعام البلاغيّ إلى الطعامِ البليغِ لتصويرِ هذا الرباطِ الكامنِ بين الطعام والكلام، ولتحقيقِ الفهمِ باعتباره نشاطا ذهنيا. مُحققا إحالةً منسجمةً مع مقاصدِه التي يرومُها. مُبرزا طبيعة العلاقة الوَاصِلَةِ بينَ مفردتي “الطعام” و”الكلام”، وهي ابتداءً صِلة بين مادي متضمن لمعنوي، ومعنوي متضمن لمادي، كلاهما ضروري أيما ضرورة لإحداث تواصل بين الذات والعالم الخارجي. إن المعنى القَاعدي للطعَام في كِتِابِ “الطعام والكلام” يرتكز على خَاصيتين اثنتين؛ خاصية وُجودية مِعيَارِيّة؛ تتصل بالـمدخلات الحِسيّةِ التي تكون بمثابة مُنبهاتٍ مُدركة من خِلَالِ الحواس (رؤية شكل الطعام بالبصر، وشمه، وتذوقه، وتحسسه). ثم يمتد هذا المدخَل الحِسّي إلى التَّجَارِب المادية المسيّجة لجسْم الإنْسَان، مثيرا بذلك دلالات العيش والبقاء، وما يُصَاحِبُ هذا البُعد الوجوديَّ مِنْ مَشَاعِرَ تُثَارُ تجاه الطعام (حب طعام دون آخر، أو الاشمئزاز منه...). أما الخاصية الثانية؛ فبَلَاغِيّة تَأوِيلِية مُتجذرة في شتى الصُّنُوفِ الأَدَبية، وهي خصيصة وَثِيقَة الصّلة بالمدخلات الحسية؛ التي تتحول مما أدركه الإنسان وخزنه في ذاكرته إلى بُنى لغوية بلاغية، يُصرفها الإنسان في كتاباته وإبداعاته. في حين أنّ المعنى القَاعِدِيّ للكَلَام في الكِتَاب نفسه يتأرجَحُ بين سِتِ دلالات فَرعية، تَتَلَون تبعا للتصورات القائمة عليها (على المستوى الصوتي: الكلام بمعناه الحسي، على المستوى الاجتماعي التفاعلي: التواصل والحوار والتعبير، على مستوى سلطة القول: البلاغة والإقناع، على المستوى الشخصي: التدليل على هوية الإنسان، على المستوى القيّمي: الصدق أو الكذب، على المستوى الإبداعي وما إليه)، وكلها فروع لها أَصلٌ قَاعِدِيّ مَعنَوِيّ وَاحِدٌ ثابت بما يَكْتنفُه من وَعي إِدراكي وبعدٍ بلاغي، وهو إدراك مرتبط بالعمليات الذهنية التي تترجم الأفكار المجردة إلى كلام مفهوم منطوق أو مكتوب، محمل بمشاعر، وعادات، ومهارات اجتماعية وثقافية، وقيم إنسانية، فيتعدى الكلام من هذا المنظور؛ الجَانب العَقلِي واللُّغَوِي، ليشمل المفاهيم المجردة، بوضعها ضمن سِياق بلاغي وجودي له تأثيرات عاطفية. وبذا؛ يمكنُ القولُ إنّ كلَ تصورٍ إدراكيٍ انطوت عليه المفهوماتُ المُتَاخِمَةُ لكل من الطعام والكلام في مُصَنّفِ الدكتور العوادي؛ تتمخضُ عنه معانيَّ جديدةً مستشفةً من عمق المحفورِ من النصوص التراثيةِ الثرية. لتغدوَ الغايةُ الرفيعةُ من هذا العملِ الحفريِّ تبئيرَ خطابٍ بلاغيٍ ثقافيٍ يفندُ بوساطتِهِ فكرةَ السلطةِ الثقافيةِ القارةِ كما يُسميها الدكتور هاني آل يونس.