البيروقراطية والتخطيط !؟

خلال الأسابيع الماضية تداوَلت وسائل التواصل الاجتماعي “فيديوَين” قصيرين لمعالي وزير المالية الأستاذ محمد الجدعان، وهو بكامل أناقته بالغترة والعقال والمشلح البُني اللون الجميل. حيث ظَهَرَ معاليه الكريم أكثرُ شباباً ووسامةً وأناقةً مُقَارَنَةً بظهوره السابق في ذلك “البودكاست” بثوبه الأبيض “حاسِر” الرأس، أُسوَةً بالمُحاوِر الشاب؛ وكأنَّما ذلك البودكاست الشهير وَضَعَ شَرطاً أساسياً لكُلّ مَن يريد الظهور فيه أنْ يكون حاسر الرأس (مصَلِّع)، بل يُفَضَّل أنْ يكون أشعَث الشعر، أُسوَةً بالمُحاوِر الشهير في بودكاست آخر، الذي يبدو أنَّه يتعمَّد “لخبَطَة” شَعر رأسه قُبَيل بِدء التصوير، وذلك حتى يكون “كووول” و “نيو لوك”!! وأجزِم بأنَّ ذلك الإعلامي في ذلك البودكاست الشهير محلياً لن يجرؤ على زيارة أو استقبال كبار السِنّ مِن أقربائه أو حضور مناسبة اجتماعية كبيرة وهو حاسِر الرأس أشعَث الشعر. ولكن، يبدو أنَّ هذا المظهَر مِن ضروريات الـ “نيو لوك” والظهور “كووول”، كما يقول شباب ستاربكس !! فعظيم الشُكر والتقدير والإمتنان للمقام السامي الكريم الذي أنقَذَ الزي السعودي مِن إهمال بعض كبار المسؤولين مِن أصحاب المعالي والسعادة عندما وَجَّهَ جميع المسؤولين الحكوميين بضرورة الإلتزام بارتداء الزي السعودي الكامل أثناء الدخول والخروج لمقرّات العمل وأثناء حضور المناسبات الرسمية وأي مناسبة يُمَثِّلون فيها الجهاز الذي يُديرونه. لأنَّني شخصياً، كُنت مُتَخَوِّفاً مِن أنْ يَخرُج علينا بعض أصحاب المعالي والسعادة “بالشورت والـ تي شيرت”، وذلك مِن كَثرَة ظهور بعضهم حاسري الرأس وآخر بالبنطلون، وذلك في فعَاليَّات ضخمة يتحدَّثون بإسم الجهاز الذي يتَشَرَّفون بإدارته، بل وفي المملكة، وأحياناً كثيرة باللغة الإنجليزية !! تَضَخُّم الوظائف القيادية !! عَودَةً إلى تلك “الفيديوات”، حيث تَحدَّث معالي وزير المالية الأستاذ محمد الجدعان في أحدهما عن الإنفاق على بعض المشاريع. حيث قال: “هناك إنفاق بلا أثَر، وإنفاق بأثر بسيط جداً لا يُقَارَن بحجم الإنفاق على المشروع، وهناك إنفاق ذو أثر سلبي. فهناك مشروع في أحد مناطق المملكة تكاليفه بعشرات المليارات من الريالات، صُرِف عليه خمسة أو ستة أو سبعة مليار ريال في ذلك الوقت، وكان الأثر منه صفر لأنه متوَقف. فالأثر من هذا المشروع سَلبي، لأنَّ الناس يمُرّون على مشروع صُرِف عليه مليارات لكن لا يخدمهم، لأنَّه واقف ... كُلّ ذلك بسبب سوء التخطيط”، كما قال معاليه. وفي الفيديو الثاني تَحَدَّث معاليه عن مشروع تحلية مياه إنتهى بناء محطة التحلية وبدأت في إنتاج المياه المُحلاة مِن مياه البحر ليتَم إعادة المياه المُحلاة إلى البحر، وذلك بسبب عَدَم الإنتهاء من مشروع أنابيب نقل تلك المياه المُحلاة مِن محطة التحلية تلك إلى مواقع الاستهلاك البعيدة عنها، كما قال معاليه. وفي هذين “الفيديوين” يَذكُر معاليه أنَّه يستشهَدَ بهما للتدليل على سوء التخطيط في فترة مَضَت. بكُلّ تأكيد، لا يختلف إثنان مع معاليه على ذلك الخطأين التخطيطيين وغيرهما مِن الأخطاء التخطيطية والمُمارسات البيروقراطية السلبية آنذاك. ولكن قَيَّضَ الله للمملكة تَوَلي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز دفَّة الحُكم، واختياره الحكيم لصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ليتولى قيادة “قطار” التصحيح والتغيير في مملكتنا الغالية؛ حتى أضحَت المملكة اليوم حديث العَالَم مِن نواحٍ شَتّى. وبما أنَّ معالي الأستاذ محمد الجدعان ينتقد التخطيط البيروقراطي في فترة مَضَت، فلا بأس بالحديث مع معاليه عن الواقع الحالي ـــ وليس الماضي ـــ لتخطيط الوزارة التي يتولى إدارة دفَّتها مُنذُ ثمان سنوات، وهي الوزارة الأهَمّ في المملكة مُنذُ تأسيسها، تِلكُم هي وزارة المالية. حيث نتساءل مع معاليه، وذلك في ظِلّ رؤية 2030 والتَوَجُّه الواضح لسمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان للقضاء على التَضَخُّم البيروقراطي والإداري والبشري في الأجهزة الحكومية: هل بالفعل تحتاج وزارة المالية لهذا العدد الكبير مِن الوظائف القيادية العُليا: نائب وزير، خمسة مساعد وزير ومستشار، ثمانية وكلاء وزارة، وعدد أكثر مِن الوكلاء المساعدين، وذلك كما جاء في الهيكل التنظيمي للوزارة على موقعها في الإنترنت !؟ وكيف يُقارِن معاليه هيكل وزارته مع هيكل وزارتين سياديتين ضخمتين: وزارة الدفاع (نائب وزير، مُساعِدا وزير، ثلاثة وكلاء وزارة)، وزارة الداخلية (نائب وزير، مساعدا وزير، سبع وكالات)، وذلك فيما يخُص عدد الوظائف القيادية !؟ المبـاني الحكومية يُروى عن مؤسِّـس وقائد رؤية 2030 صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء، أنَّه عند عَرض جهاز حكومي لمشروعٍ ما على سموه الكريم، وبعد مناقشة مسؤولي ذلك الجهاز عن هذا المشروع للوقوف على أهميته وضرورته، يسأل سموه الكريم القائم على ذلك الجهاز سؤالين لا ثالث لهما: الأول عن ميزانية ذلك المشروع، والثاني عن الفترة الزمنية لإكمال ذلك المشروع. وفي هذا المقام، في موضوع شؤون وشجون التخطيط البيروقراطي الذي طَرحَه وزير المالية الأستاذ محمد الجدعان في ذلك “الفيديوَين”، نتساءل مع معاليه: مُنذُ أنْ تولى معاليكم زمام وزارة المالية قبل ثمان سنوات، هل رَفَعَ معاليكم إلى مقام سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء خِطَّة مشروع قيام الحكومة باستكمال بنـاء مَقَارّ جميع الأجهزة الحكومية في جميع مُدن وقُرى المملكة ليَتِم الإنتهاء مِن هذا المشروع المُهِمّ خلال خمس أو عشر سنوات !؟ حيث تأخَّرَ هذا المشروع المُهِمّ عشرات السنين، بدلاً عَمَّا نُشاهِده حالياً مِن تواجُد العديد مِن الوزارات والأجهزة الحكومية والتعليمية والخَدَميَّة، سواءً في العاصمة الرياض أو جميع مناطق المملكة، في مبانٍ مُستأجَرَة مِن بنايات تجارية أو بنايات شقق سكنية أو فيلل سكنية !؟ ولكن كيف يَحِقُ لنا توجيه هذا السؤال لمعاليه وهو يُدير وزارة المالية مِن مبنى مُسـتَأجَر قُرب “مول” غرناطه على الطريق الدائري الشرقي شمال العاصمة الرياض، تاركاً المبنى الجميل لوزارة المالية على طريق الملك عبدالعزيز قُرب وسط الرياض !؟ مأزَق شـمال الرياض !؟ إنَّ تواجُد الغالبية العُظمى لمقارّ الأجهزة الحكومية في شمال العاصمة الرياض يُعتَبَر خطأ تخطيطي تُشارك فيه وزارة المالية بنسبةٍ كبيرة جداً، كونها الجهة المسؤولة عن اعتماد مواقع بناء وإيجارات غالبية، إن لم يَكُن جميع الأجهزة الحكومية. ويأتي في قِمَّة هذا الخطأ التخطيطي عُزوف وزير المالية عن القيام بمُمارسة مسؤولياته في المبنى الأساسي لوزارة المالية على طريق الملك عبدالعزيز وسط العاصمة الرياض، مما شَجَّعَ الكثير مِن المسوؤلين على اختيار أحياء شمال العاصمة الرياض مَقرَّاً للأجهزة الحديثة التي تَشَرَّفوا بتولي إدارتها، أو حتى اختيار بعضهم الإنتقال بمكتبه إلى مبنى جديد في أحياء شمال مدينة الرياض، تاركاً المبنى الأساسي للوزارة على طريق الملك عبدالعزيز. هذا التَكَدُّس لمقارّ الأجهزة الحكومية في الأحياء الواقعة شمال العاصمة الرياض هوَ أحد أهمّ أسباب تَضَخُّم أسعار العقارات في جميع أحياء شمال العاصمة الرياض عُموماً وبدرجةٍ لا تُصَدَّق. فقد أضحَت قضية الارتفاعات الجنونية في أسعار العقارات ــــ شـراءً أو إيجاراً ــــ في الأحياء الشمالية للرياض حديث المجالس لسُكان العاصمة الرياض والوافدين إليها مِن بقية مناطق المملكة وخارجها. ولو نظرنا إلى مدينة الرياض ومواقع الأجهزة الحكومية فيها، فَلن نَجِد جنوب مَقرّ إمارة منطقة الرياض، وهي في وسط العاصمة الرياض، سوى مَقرّ الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء. بل إنَّ الوزارات والأجهزة الحكومية التي ظَهَرت بعد مشروع بناء الوزارات على طريق الملك عبدالعزيز إبَّان تولي الملك سعود، رحمه الله، جميعها تَمَّ بناؤها تدريجياً في الأحياء شمال العاصمة. وليسَ هذا فحَسب، بل إنَّ بعض أصحاب المعالي والسعادة مؤخَراً اختاروا مقراً جديداً للجهاز الذي يُديرونه في موقعٍ جديد بأحد أحياء شمال مدينة الرياض. والمُلفِت للنَظَر، عندما يكون هناك أكثر مِن مبنى للجهاز الحكومي، أنَّ صاحب المعالي أو السعادة يختار ذلك المبنى الواقع في حي مِن أحياء شمال العاصمة الرياض !! يَنقُل الروَاة أنَّ أوَّل مَن بدأ “موسم الهجرة إلى الشمال” هو ثاني وزير لوزارة البريد والبرق والهاتف (حالياً وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات)، حيث نَقَلَ الوزارة من مبناها الجميل بالحجَر الأخضر على طريق المعذر قُرب وسط الرياض إلى مبنى جديد في مُجَمَّع الاتصالات بحي المرسلات شمال العاصمة الرياض ونَقَلَ إدارة اتصالات الرياض إلى مبنى الوزارة بشارع المعذر، ليُصبح مبنى الوزارة حالياً “كائن بيروقراطي غريب” بين مباني “مدينة” شركة الاتصالات السعودية بحي المرسلات، في حين يتحوَّل المبنى القديم والجميل للوزارة على طريق المعذر إلى مبنى مهجور دون استغلال مُنذُ سنوات. وبالتالي، نتساءل: هل يعلَم مجلس إدارة شركة الاتصالات السعودية أنَّ المبنى القديم لوزارة الاتصالات وتقنية المعلومات على طريق المعذر مهجور !؟ أم أنَّ هناك خللاً فنياً في المبنى يحول دون الاستفادة منه !؟ وإن كانت هذه هي الحقيقة، فلماذا لم يتم علاج الخلل الفني في المبنى أو هدم المبنى والاستفادة من موقعة لبناء مبنى جديد !؟ ولكن موضوع المباني الحكومية لا يتوقف عند المبنى القديم والمهجور السابق لوزارة الاتصالات وتقنية المعلومات على طريق المعذر، بل يتعداه إلى مشروع سكني جديد من مئات الشقق السكنية أُقيم على أرض تابعة للمؤسسة العامة للتقاعد التي دُمِجَت عام 2021م مع المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية، حيث يرأس مجلس إدارتها وزير المالية. هذا المشروع السكني يقع على تقاطع طريق الإمام سعود بن عبدالعزيز بن محمد مع طريق التخصصي في الرياض. حيث انتهى بناء هذا المشروع قبل عِدَّة سنوات، ولازال غير مشغول. فهل تعلم وزارة المالية عن ذلك !؟ ولماذا لا يزال هذا المشروع السكني الكبير غير مُسـتَغَل !؟ أليسَ هذا أيضاً مِن سوء التخطيط والمُتابعة !؟ خُلاصَة القول، أنَّ الحديث عن شؤون وشجون التخطيط على مستوى الدولة يجب ألاَّ يكون إنتقائياً، ويكون صاحب المعالي أو السعادة الذي يَتَحَدَّث عن ذلك الخطأ أو الخلل على قَدرٍ مِن العَدل والإنصاف أنْ يبدأ بنَقد نفسِـه والجهاز الذي يُديره.