ذا مجنون رسمي
أحيانا تعود بالإنسان ذاكرته وذكرياته إلى مراحل مرت من عمره ، وإلى مواقف حدثت له في حياته تختلف باختلاف أحداثها، وأزمنتها ، ومدى طرافتها أو قسوتها ، وأعتقد أن طفولات الانسان أو مراحل عمره المبكرة تكون غنية بمثل هذه الأشياء التي تحتفظ بها ذاكرته عندما كانت غضة بيضاء ناصعة قبل أن تفرز الحياة عليها أوضارها وأصبغتها المختلفة . أحد زملائي - على مقاعد الدراسة - كان من هذه النوعية من الناس ممن تحتفظ ذاكراتهم الطفولية ببعض مامر بهم في طفولاتهم المبكرة . يقول زميلي : إنه عندما كان في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات - من القرن الهجري الماضي ، كان يدرس في السنوات الأخيرة من المرحلة الابتدائية التي التحق بها بعد أن درس القرآن الكريم ومبادئ القراءة في “ الكتاب “ عند بعض المشائخ ، وفوجئ في المدرسة بمعلومات لايعرفها ، ولم يسمع بها من قبل ، فإلى جانب التوحيد ، والفقه ، والحديث والتجويد ، عرف الجغرافيا ، والتاريخ ، والعلوم ، والحساب ، ومبادئ الهندسة ، وفوجئ بأن كل مادة لها معلمها الخاص من المعلمين الذين أتوا من بعض البلدان العربية الشقيقة ‘ وكان من بين المواد التي أثارت انتباهه مادة “ النحو “ التي كانت في مجتمعه تثير السخرية على الشخص المتشدق أو المتنطع في الكلام ، إذ كانوا يطلقون عليه عبارة “ فلان متنحوي “، أي ثقيل دم . يواصل زميلي حديثه قائلا : كان علم مبادئ الهندسة محببا إلى نفسي رغم غرابة مسميات أدواته “ بيكار “ ‘ “ فرجار “ ، “ منقلة “ . هذه الأدوات ، يقول زميلي أشبعت رغباته في رسم الخطوط المنتظمة . و رغم أن الهندسة ، والرياضيات مرتبطتان ببعضهما إلا أنني - يقول صاحبي - كنت أكره الرياضيات ، ولولا ارتفاع د رجاتي في الهندسة - آخر العام - كنت رسبت في الاختبار النهائي لأن درجات المادتين تجمع مع بعضهما في تلك الأيام . أما عندما انتقل صاحبي من مدرسته - في قريته - إلى مابعد الابتدائية - في إحدى المدن ، فقد فاجأته مسميات مواد لم يسمع بها من قبل . في الجغرافيا فاجأته كروية الأرض التي كان البعض لايؤمن بها - في ذلك الزمن - إلى جانب مسميات أخرى كانت تبدو نشازا في ذائقته السمعية . نهر “ الفولجا “ في روسيا ، ونهر “ براهما بوترا “ في الهند ، ونهر “ الميسيسبي “ في أمريكا . كل ذلك كوم ، وشيء اسمه “ علم النفس “ كوم آخر ، كلمات صماء لم يعرف معناها “ إدراك “ “ وجدان “ “ نزوع “ ومن علماء النفس “ سيجمون فرويد “ والألماني “ رورشاخ “ . أحد الزملاء الأشقياء قال لمعلم هذه المادة : عندي واحد حالتاه النفسية والعقلية تحتاجان إلى علاج وأريدك أن تعالجه ، ثم أخذه - برفقتنا جميعا - إلى المكان الذي يوجد فيه الشخص المخيف .. كان ضخم الجثة ، فاحم اللون ، لايرتدي سوى خرقة مهترئة من القماش ، تداخل لونها مع لون جسده العاري ، تكاد تستر سوأته ، وفوق كل ذلك كانت حركاته وتصرفاته مخيفة لا تنبئ إلا عن فعل شيء مؤذ فيما لو اقترب من أحد ، وما كاد معلمنا يراه حتى أطلق ساقيه للريح وهو يردد : لا يا ابني ذا مجنون رسمي .. ذا مجنون رسمي * “ جزيرة فرسان “