يقول أحد المفكرين: (إن اكتمال التجربة الحضارية العمرانية والاقتصادية والاستثمارية يرتبط باكتمال التجربة الثقافية لهذا المجتمع، فالتجربة المتحضّرة تعبّر عن مجتمع مثقف والعكس صحيح). لاشك أن اكتمال التنمية المادية المحسوسة اقتصادية واستثمارية يعتمد بشكل رئيس على التنمية المعنوية الثقافية فهي البنية التحتية لأي تنمية مستدامة، فهي التي تبني المفاهيم الجديدة وتطور القيم المجتمعية و تنمّي المهارات وتحفز العقول وترفد التجربة و تدفع على مزيد من الابتكار. فالعقل الخلّاق يبعث الفكرة والفكرة الإبداعية تتحول إلى مُنجز علمي أو معرفي أو اقتصادي يسهم في بناء التنمية الوطنية بمفهومها العام. إن أساس النهضة البشرية هو العقل المتوهج المتقد وهذا ما عمِل على احتضانه وتفعيله وتطويره الأمير المثقف فيصل بن نواف بن عبدالعزيز أمير منطقة الجوف عبر مبادرة ليالي الجوف، هذه المبادرة الثقافية التي أطلقها سموّه ليلتقي فيها بأصحاب الرأي والفكر والتجربة وعموم المجتمع عبر لقاءات حوارية ثرية، ليقف على آرائهم وتطلعاتهم ورؤاهم وأفكارهم ويحوّلها إلى مبادرات واقعية تنموية تصب في صالح تجويد المكان وبناء الإنسان، تحقيقاً لأهداف الرؤية المضيئة في صناعة المجتمع الحيوي والاقتصاد المزدهر والوطن الطموح. ولابد من الإشارة إلى الدور المحوري الذي قام ويقوم به مكتب تحقيق الرؤية بقيادة الدكتور أحمد السناني، ابتداءً من التخطيط الاستراتيجي إلى التنظيم المتقن ثم التنفيذ النوعي، ومواصلة ذلك عبر الإشراف على تحقيق المبادرات واقعاً ملموساً ومتابعة سيرها وتقويم المخرجات لضمان استمراريتها. هذا الدور العميق والدقيق والمتواصل هو المحرّك القوي والناعم -في آنٍ واحد- لصناعة التنمية الوطنية بكافة مجالاتها، ولاشك بأنه جهد جبّار يقوم به كادر شغوف وعلى قدر عال من النباهة والوعي والمهارات لتحقيق أهداف الرؤية المضيئة وتجاوز الإنجاز إلى الإعجاز. هذه المبادرة الشغوفة امتدت على مدى سنوات مُزهرة وهي الآن تصافح اللقاء السادس والخمسين، وقد قامت هذه المبادرة على ثلاثة عناصر مهمة، ولعلّي أسمّيها ركائز التنمية الثقافية، وهي: ١/ الحوار: تشجيع أبناء الجوف على التحدّث والنقاش مع أميرهم بأريحية عالية، إنّ سمو الأمير فيصل بن نواف بن عبدالعزيز يمد جسور القلوب ويمهّد الدروب ليحتضنَ أصواتهم وأفكارهم وملاحظاتهم ومشاعرهم وآراءهم بانسجام عال و إيجابية منقطعة النظير. ٢/ التثقيف: في العديد من هذه اللقاءات يتم استضافة جهات مختلفة من خارج المنطقة لإثراء هذه اللقاءات وليطّلع أبناء الجوف على جديد هذه الجهات وأطروحاتها ومشاريعها ومخرجاتها، فعلى سبيل المثال تم استضافة عدد من أعضاء مجلس الشورى ، وهيئة حقوق الإنسان، وبرنامج جودة الحياة في هذه الليالي البهيّة ومؤخراً احتضنت عدداً من القائمين على مركز الملك عبدالعزيز للتواصل الحضاري، هذا التواجد الثري لعدد من الجهات المهمة يرفع الجانب المعرفي والثقافي ويجعل ابن الجوف على مقربة من الجهات الصانعة والمنفّذة للتوجهات والقرارات وعلى اطّلاع دائم بكل جديد ومفيد. ٣/ التفكير: إن تشجيع الحوار يطوّر اللغة، هذه اللغة التي تتوهج مع وجود ثراء معرفي وثقافي، مما يساعد على صناعة مزيد من الأفكار. حيث يقول هيجل: إننا نفكر بلغتنا ونتحدّث بفكرنا! ، فكلما كانت لغة الإنسان صحيحة ومتسعة فكّر بشكل صحيح ومنهجي ومتسع الأبعاد فأتى بأفكار غير اعتيادية ، والفكرة هي شرارة الإبداع ومنتج التنمية ومحورها و مُحركها وضمان استدامتها. لذا استطاع أمير الجوف فيصل بن نواف بن عبدالعزيز صُنعَ بُنية تحتية ثقافية عبر بناء الإنسان المتحدث المثقف المتفكر، هذا الإنسان الإيجابي المتطور والمتحفز دوماً للابتكار والتجديد. ولعلي أقف على أبرز المخرجات الثقافية -من وجهة نظري- لهذه المبادرة الوطنية الرائدة: ١/ بناء الوعي: إنّ الاستماع إلى الآراء المختلفة وتقبّلها واحتوائها تعزيزاً أو توجيهاً، دور فكري عال يقوم به سمو الأمير فيصل بن نواف بنفسه وهو يدير حوارات لقاءات ليالي الجوف باحترافية وأريحية عالية، وهو ما نستطيع تسميته ببناء الوعي الفكري وهو نمط ذهني ذكي ومتجاوز لعملية التوعية، إنه يحفز الوعي الذاتي لدى أبناء المجتمع. ٢/ تقويم المفاهيم والقيم المرحلية، إن منطقة الجوف تعيش مرحلة تنموية استثنائية وهذا يتطلب تطويراً للمفاهيم والقيم الثقافية والمجتمعية، والمقصود بها هنا تلك الأفكار والعلاقات وطرق العيش والعمل والتعبير والسلوكيات الإنسانية والمهارات المهنية وغير ذلك مما يرتبط بالمفاهيم الثقافية البشرية المتطورة بفعل التغيّر الزمني والحضاري الحيوي. ففي كل مرة يتم طرح موضوع جديد يتم تقديمه بقالب معرفي فكري يتناسب والمرحلة التنموية وأهدافها ومخرجاتها المأمولة، وهنا يتم صناعة نمط فكري ثقافي مرن. ٣/ تحفيز الأفكار : وذلك عبر الحوارات التي تشبه لقاءات العصف الذهني لتحفيز العقول على الإتيان بجديد وفريد الأفكار، ففي هذه اللقاءات يتوهج البيان و تتلاقح الأذهان وصولاً إلى مزيدٍ من شلالات الفكر و الأفهام. ٤/ صناعة الواقع : كثيراً ما تتحول الأفكار والآراء إلى مبادرات واقعية ملموسة بدعم ومتابعة سمو الأمير فيصل بن نواف لتطوير المكان وخدمة الإنسان، فمن خلال لقاءات ليالي الجوف توهجت عدد من المبادرات الثقافية والمجتمعية والخدمية لتنمية الفن والأدب والثقافة أو لتطوير الخدمات والمرافق والمؤسسات، وبهذا تكتمل العملية التنموية بتمظهرها الواقعي والمؤثر في حياة الفرد والمجتمع. ختاماً لقد امتلك أميرنا المثقف فيصل بن نواف أدوات التنمية الثقافية فصنع منها بُنية قوية لمجتمع مُدرك مثقف منضبط شعوريّاً و واع فكريّاً، متطور مهارياً ومتحفّز عمليّاً، بنى به ومن خلاله و لهُ تنمية اقتصادية وزراعية واستثمارية مستدامة. *كاتبة وشاعرة منطقة الجوف