هل ترى الرياض كما أرى؟!

لن أنسي يا سادتي اللحظة التي جئت فيها للرياض، أول مرة، أنها بحق لؤلؤة الشرق الساحرة والعاصمة الحضارية للمملكة، كانت تلك لحظة عجيبة، وعصية عن الوصف، وشرف كبير يحصل لي، وحلم راودني لسنوات عدة، وأصبح الآن حقيقة، فقد كان بي شوق عظيم لزيارة المملكة، وعاصمتها الرياض الحبيبة، فلم يكن يساورني شك أنها من أجمل بلاد العالم وتستحق زيارتها مهما كلف الأمر. وأتذكر الآن بوضوح عندما هبطت الطائرة بنا في مطار الملك خالد الدولي، كانت السماء صافية، لكني لم أستطع تبين معالم المدينة جيداً، فلم يكن شفق الفجر، قد تبدد بعد، وثمة اضواء ساطعة تأطر شوارعها وتوازيها، صعودا وهبوطا، فالرياض تبدو من عَلِ كأنها فلك أسطوري يسبح علي صفحة الصحراء الممتدة بلا نهاية. لطالما سمعت بأن الرياض مدينة عصرية حديثة، وتمنيت زيارتها، فهي تمتد علي مساحة كبيرة من الأرض، شامخة كساكنيها، ومتلألئة مثل نجم سقط من فتوق سماء. إنني أذكر بوضوح مرة سألني فيها صديق تعرفت عليه حديثا، قائلا أنت تشبه الأخوة السعوديين، قلت له هذا أنا سعودي الهوى، سوداني الجنسية، ودهش حينما قلت له أني أحببت الرياض مثل حبي لبلدي الخرطوم وأكثر، فقد آوتني الرياض، ووجدت فيها الأمن والطمأنينة والعمل، فأنا أرى نفسي كما قال الشاعر: إن تتهمي فتهامة وطني وإن تنجدي يكن الهوى نجد لكن تلك قصة أخري، ثم تجولت في الرياض، ثاني يوم لوصولي، هذه أول مرة أتمشى فيها، وكنت سعيدا بذلك، لاحظت أن المباني ليست عالية، فمعظم العمارات تقوم علي ثلاثة طوابق، أما مبانيها العامة والتجارية فتبدو ضخمة وواضحة، خصوصا، الصيدليات، والمطاعم، والمولات، والمتاجر. ورأيت أيضا عددا من الأبراج المرتفعة بها، مثل برج المملكة، وبرج رافال وأبراج مركز الملك عبد الله المالي وغيرها، لعل جمال المبنى لا يقاس بمدى ارتفاعه، فالرياض يا سادتي ليست كغيرها من المدن، ولا حتى أبراجها، رغم جمالها وارتفاعها البارزين، واللافت للنظر، هو وجود عدد كبير من الجسور، التي تجعل الحركة المرورية تنساب فيها بسلاسة، رغم الكثافة السكانية العالية والمتزايدة بها. لكن بهذه الجسور ثمة روح حية تميزها، فهي مصممه ومهندسة بشكل يجعل معظمها يبدو كقطع فنية خالصة، كأنها رمز للتواصل والارتباط بين الماضي والمستقبل، لاسيما لو نظرت اليها من علو أو تأملتها علي مهل، مما يضفي عليها طابعا متميزا، وتراء لي أن السبب الذي يجعل من الرياض مدينة ذات شخصية استثنائية، ليست عمارتها الضخمة ولا مبانيها الفخمة ولا تصاميمها الرائعة فقط ، بل مواطنيها هم الذين يجعلون منها ذلك، فما بين الرياض وأهلها حب عتيق لم يزل متفجرا، ولعل هذا هو سر التآلف والتناغم بين المدينة وساكنيها، وهو الذي يجعل أهل الرياض يرتبطون بمدينتهم هذا الارتباط الوثيق، ويحبونها هذا الحب الخالص، ولعل الأغنية الوطنية الرائعة “قلبي تولع بالرياض” تؤكد ذلك. زرت في تجوالي، وسط المدينة، ورأيت بعض أطراف حي البطحاء تهدم وتزال ويشيد مكانها عمارات أطول وأفخم، قلت في نفسي “هذه سنة الحياة يحل الجديد مكان القديم، والقوي مكان العتيق المتهدم”، وها هو وسط الرياض وقلبها النابض يخضع للتحديث والتطوير في عملية دؤوبة ومستمرة، هؤلاء القوم مدهشون، يسابقون الأمم ، يكادوا لا ينامون، كل وقت لديهم جديد يفعلونه، والمدينة تتمدد، وأطرافها كل يوم تتوسع، فالكثير من البنى والمخططات السكنية تشييد وتقام، لا غرو أن رؤية سمو ولى العهد الأمير محمد بن سلمان الثاقبة والصادقة جديرة بالإشادة والتقدير من المواطنين. ولابد أن الرياض ستشهد مرحلة تحولات كبيرة، القيم وطريقة العيش، وتمتحن الأخلاق والعادات والتقاليد الراسخة، ويقوم جديد حديث مكان قديم بالي، حتي وإن بدأ يجاوره الي حين، فالحياة دائما ما تتبدل، لكن أحوال الناس هنا تتحسن أكثر، وقيمهم تزداد رسوخا، مما يجعلهم آمنون ولربهم حامدون شاكرون. لكن الرياض مدينة لا تخلو من بعض القسوة، لأنها عاصمة المال والأعمال، والجهد والعرق، فهي بحق مدينة الفرص والطموح، مدينة الوقت الثمين، الذي يشحذ شفراته كحسام صارم، مدينة الحركة والعجلة والركض، شأنها شأن المدن العالمية الكبرى. ورغم ذلك فهي مدينة مميزة ومختلفة، ولا تخلو من الكرم أيضا وكثيرا من الرحمة، فقد لمحت عدة مرات بعض الأخوة السعوديين يقفون في هجير الشمس وحماة القيظ، يوزعون زجاجات الماء علي المارة مجانا، وبكميات كبيرة، فالماء هنا بمقابل، والرياض بها عدد ضخم من العمالة الوافدة، وبعضهم يمسك علي نفسه شراء المياه المعبأة، ابتغاء توفير ثمنها. وكثيرا ما كنت أدخل لبعض المخابز، فأجد مكتوبا على مدخله “يوجد لدينا خبز لمن لا يستطيع الشراء” وأحيانا كان يصادفني هذا الكرم بشكل أو باخر، ففي ذات مرة قابلت رجلا علي باب أحد المساجد، ينفح الناس بطيب يفوح شذاه، ولم يكن أبدا عطرا رخيصا، فالكل هنا يعبر عن كرمه بطريقته، وهذا ليس غريبا، فأهل الرياض قوم كرماء واتقياء وودودون بطبعهم، وجميلون مثل مدينتهم، وكما قال الشاعر : الحُسنُ حولك وفي الوهاد وفي الذُرى فَاِنظُر ألست ترى الجمال كما أرى لو كان إيليا أبو ماضي حيا، ورأى الرياض اليوم كما أراها أنا، لسمح لي بتعديل شطر بيت قصيدته الأخير، واستبدل كلمة “الجمال” بكلمة “الرياض” فهكذا سيكون أجمل وأروع، فعذرا شاعرنا : الحُسنُ حولك وفي الوهاد وفي الذُرى فَاِنظُر ألست ترى الرياض كما أرى