التراث السمعي والبصري ... الذاكرة الحية للشعوب.
قال الشاعر المكسيكي والمدير الأسبق لـ “منظمة اليونسكو” “خايمي توريس بوديت”: (إن المحفوظات ليست مقابر ضخمة، وإنما هي أماكن أساسية لاستمرار الوعي البشري). إن الإنسان مسكونٌ بعشق تراثه الأصيل، ومجبولٌ بالحنين لماضيه العريق. ولأهمية التراث في حياة الشعوب، وصياغة مستقبلها، فقد أدركت القوى الاستعمارية - الإمبريالية - تلك الأهمية، فاستخدمته سلاحًا فتّاكًا، وذخيرة صاعقة في غزواتها الظالمة، حيث درست بعمق شديد، وعناية تامة تراث الشعب المستهدف، وتظاهرت بالتماهي فيه، واستخلصت من هذا التراث الوسائل والسبل التي تمكنها من الإمساك برقاب أبنائه، والسيطرة على عقولهم، ونشر الفتن بين مكوناتهم الدينية والعرقية. إن “التراث السمعي والبصري” يشغل حيزًا واسعًا من الذاكرة الحية للشعوب والمجتمعات، ويسري في شرايين الأجيال المتعاقبة. إنه القوة الناعمة التي تُسْهِم بالحفاظ على الهوية الوطنية للمجتمعات، وتصنع الصبغة الحضارية للشعوب، فتجعل لها وجهًا متميزًا بين الأمم الأخرى. كم هو التراث بالغ الأهمية، إنه ذلك المحقق النزيه الذي يستنطق ذاكرة الأجيال السابقة، وهو الكاهن العَرَّاف الذي يستحضر أرواح الأمم الغابرة، وذلك من خلال القصائد والأشعار، والسرديات التاريخية، والقصص الشعبية. وقد قُلْتُ في مقالة سابقة نُشرت في هذه المجلة “مجلة اليمامة” الغَرَّاء: (إن “التراث السمعي والبصري” هو ماضي الحاضر، وحاضر الماضي، ومستقبل الحاضر، وحاضر المستقبل)، إنه الذاكرة الناطقة التي لا ينقطع صداها، ولا يُطْمَسُ أثرها، وإنه الطاقة المتجددة التي تُذكي النمو الإدراكي للوعي الجمعي، وتُعَمِّق الفهم نحو الشعوب الأخرى. إن “التراث السمعي والبصري” في مفهومه المؤسسي يشير إلى المخزون الشامل من التسجيلات الصوتية، والأعمال البصرية مثل والموسيقى، واللوحات، والأفلام، والصور الفوتوغرافية، والمواد السمعية والبصرية الأخرى المُوَثَّقَةِ بشتى الآليات، والمحفوظة بكافة الوسائل. ومن خلال الرجوع إلى “التراث السمعي والبصري” يمكن للأجيال الحاضرة مراكمة ثرواتها الفكرية، وإحياء ملكاتها الإبداعية، والنظر إلى المستقبل بعيون ثاقبة، تحميها جفون متأهبة لصد غبار الرياح العاتية. إن “التراث السمعي والبصري” هو المنظار الطويل الذي يُقَرِّب لك الماضي السحيق، والبَلُّورة السحرية التي تُرِيك صورًا من الأيام الخوالي. للحفاظ على “التراث السمعي والبصري” أهمية بالغة، حيث يُمَكِّن الأجيال القادمة من استكشاف تاريخها الماضي، وكشف تراثها المطمور. كما يعزز انتمائها الوطني، ويسهم بترسيخ التعايش السلمي بين الشعوب، وينثر بذور اللقاح المعرفي بين الثقافات المختلفة. ناهيكم عن كونه مِقْدَاحًا لقريحة الفنانين، ومُحَفِّزًا لإلهام المبدعين. إن مسؤولية الحفاظ على “التراث السمعي والبصري” لا تقتصر على الجهات الحكومية فحسب، بل إن المسؤولية الكبرى تقع على عاتق المجتمعات سواء كانوا أفرادًا أو مؤسسات مجتمعية. وهنا قفزت إلى ذهني مؤسستان سعوديتان رائدتان، هما “دارة الملك عبد العزيز” الحكومية بالرياض و” دار النفائس والمخطوطات في بريدة” الأهلية، ولهاتين المؤسستين إسهامات رائعة، وجهود مشهودة على صعيد توثيق “التراث السمعي والبصري” وذلك من خلال التسجيل الصوتي والتصوير الثابت والمتحرك. وأرى أن ما لدى هاتين المؤسستين يُشَكِّل ثروة وطنية هائلة، ورصيدًا إنسانيًا بالغ الأهمية. أدركت “منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة - اليونسكو” أهمية التراث الإنساني – السمعي والبصري - الذي يُذكِي الوعي العام لدى الشعوب، ويبني في أذهانها مستهدفات السلام، ويَحْمِل حكاياتها الأصيلة، ويتأبط ثقافاتها المتنوعة، فقرَّرَت أن يكون يوم 27 أكتوبر من كل عام، يومًا عالميًا للتراث السمعي والبصري. إن هذا اليوم الدولي مناسبة مواتية، وفرصة سانحة لمضاعفة الجهود، لأجل المحافظة على الثروات التراثية المشتركة، التي تلعب دورًا حيويًا في تواصل المعارف، وتبادل الثقافات بين الأمم. قالت “السيدة أودري أزولاي” وزيرة الثقافة الفرنسية – سابقًا – والمديرة العامة لليونسكو – حاليًّا (إن الصوت والصورة على امتداد التاريخ الطويل لعمليات التدوين والحفظ، يعتبران من بين الوسائط التي نجت من الاندثار بفضل الابتكارات التقنية الرائعة، ولذلك فهما يمثلان تراثًا شديد التميز يستلزم اهتمامًا خاصًا، ومن الواجب نقله إلى الأجيال المقبلة)، وأشارت إلى أن أعدادًا ضخمة من الوثائق تضيع أو تنمحي بسبب الإهمال، أو ممارسات التخزين السيئة، أو تقادم وسائل التسجيل. إن “التراث السمعي والبصري” يفتل الحبال القوية التي تشد الشعوب إلى شواطئ أوطانها، كي لا يُبْحِروا بعيدًا نحو ثقافاتٍ مشبوهة، أو ينجرفوا سريعًا نحو فنونٍ هابطة. ويظل “التراث” صامدًا على ضفاف الحياة، ورابضًا في بطون أوديتها، مهما امتدت عصور الجفاف، ليورق من جديد، كي يمنح أهله ترياق الحياة الناجع. ويَصُب في كؤوسهم سلسبيل الأمل الواعد.