وللكتابة روح.

ليس مثل الكتابة والحروف في كشف أرواح وعقول الآخرين الذين لم نلتقِ بهم وجهاً لوجه. من خلال قراءة المكتوب يمكنك أن تكره الإنسان أو أن تحبه. للكتابة سحرها الأثيري الغامض الذي ينطلق في الكون وينفذ إلى القارئ، بحسب روح كاتبها. الكتابة تُظهر بأمانة تجاويف الدماغ الذي يُملي تلك الحروف ويسكبها على الورق، وتكشف عن طبيعة كُنه تلك الروح التي تكتب. الكتابة هي (أشعة السونار) التي تفضح ما في داخل تلك الضمائر من معاني، وما في داخل ذلك الوجدان من شعور. وبحسب ما تكون عليه الكتابة يكون التلقّي، فالعقول المشوّشة (أساساً) لن تعجبها سوى الكتابة المشوّشة، ولن تعجبها الكتابة التي تكتبها روحٌ غير مشوّشة، ولا غرابة أن تجد الكتابة (البليدة) قراءً مصفقين لها معجبين بها، الانسجام مع المكتوب يشبه تماماً انسجام الصداقات بحسب تشابه الأرواح التي انجذبت لبعضها، فالأرواح الملوّثة تنجذب لمثلها، والأمر نفسه بالنسبة للأرواح النقية، كذلك في الكتابة، وما بين الكاتب والقارئ، أيضاً تجري نفس القواعد في فيزيائية الجذب والتنافر. صحيح أن هناك بعض العلوم الحديثة التي تحاول استقراء تفاصيل شخصية الكاتب غير المرئية، وذلك من خلال السيميائية العامة في كتاباته، إلا أن بعض القراء المدرّبين على استشفاف المقروء، والذين هم أقرب إلى أرواحهم وأكثر قدرة على الشعور والإحساس باللامرئي حولهم، ولا يكذب عليهم حدسهم الصادق، يكون لديهم تلك القدرة على الغوص في أعماق الكاتب من خلال نصه، واكتشاف ما إذا كان يعاني من التوتر أو القلق، وكذلك إنْ كان مرتاحاً أم لا. كل ذلك يمكن أن يُستشف من خلال الحروف والكلمات، ولكن دائماً ما يكون مقدار ذلك التشرب من طاقة المكتوب بمقدار استعداد النفس للتلقّي، ودُربة البصيرة على النفاذ. واحدة من أوجع حقائق الكتابة، والتي على الأجيال الجديدة الشابة من الكتّاب والكاتبات استيعابها، أن الكاتب يقلّ عدد قرائه ومحبيه بمقدار ما يتوغل في أعماق الأشياء ليستخرج مكنوناتها، وعلى العكس كلما اقترب من السطح والسذاجة، أو حتى تظاهر بالبلاهة، أو كان كذلك فعلاً، فإن هذا مما يزيد من عدد قرائه، إلا أن هذا النوع من الكتّاب لا يمكنه إلا أن يظل أسيراً يوجهه الناس ليكتب لهم ما يريدون. تخيل فقط.. أن تكتب.. لا لتبوح بما تنوء به روحك، ولا لكي تُلقي بما يشتعل في كيانك إلى الخارج، بل لتصبح مجرد آلة كاتبة تنسخ ما يريده الناس الذين لا يأبهون بما في داخلك من حريق. أي عقوبة هذه، وأي عذاب؟!!!