مذاق الآخر

عادةً عندما أُداعب طفلي، أطلق عليه لقب “قطعة سكر”، فيرد قائلاً: “ماما، أنا شوكولاتة؟” فأطلق ضحكة تملأ المكان بالبهجة، تحمل معها طيف الطفولة وبراءة اللحظة، وعالمه الحر في استكشاف مشاعره بمذاق يعشق طعمه ولا يتوانى عن طلبه كلما سنحت له الفرصة. أجيب على سؤاله عن الشوكولاتة: “ماما، أنت مثل قطعة سكر أبيض نقي، وعسل أسود صافي يتشرب كل لحظة داخل كياني ويذوب في قلبي إلى الأبد.” يا إلهي، ماذا يفعل هذا المشاكس بعقلي؟ إنه يفتح بابًا على مصراعيه. تمامًا كما يشعر طفلي بالمذاق الحلو للشوكولاتة، نحن كبشر نُترك أثرًا في حياة الآخرين بمذاقات مختلفة تعبر عن شخصياتنا. فتلك المذاقات، التي قد تكون حلوة أو حامضة، هي الطريقة التي يذوق بها الآخرون طريقتنا في الحياة. فهل للإنسان مذاق يذوقه الآخر بلسانه؟ فيا ترى، ما هو الانطباع الذي نتركه بداخله؟ هل مذاقنا يعكس شخصياتنا كما ينعكس طعم الطعام في الذوق؟ هذا سؤال يشغلني. على أرض الواقع، وفي المصطلح الشعبي، نقول عن الشخصية الحسودة التي لا تفرح بنجاحات الآخرين وإنجازاتهم “نفسية محمضة”، كناية عن شعوره اللاذع المليء بالحموضة تجاه الآخر. هذا المذاق الحامض، الذي يجعل من الطعام أقل قبولًا، مزعجًا، وثقيلًا على النفس، هو أشبه بشعوره السلبي أو تصرفاته المنفرة التي لا تتقبل الخير. لماذا نربط شخصياتنا بالمذاق؟ لأن الطعام والمشاعر مرتبطان منذ الأزل. فقد أثبتت الدراسات النفسية أن الطعم يمكن أن يثير الذكريات والمشاعر المرتبطة بتجارب الحياة. وفي بعض اللهجات المحلية، يقولون عن طبع إنسان ما إنه “حار مثل الفلفل”، كناية عن الحركة أو النشاط المستمر. هو دائم العمل لا يهدأ، وطاقته لا تُطفأ بسهولة، تمامًا كما تترك الحروق الصغيرة من الفلفل أثرًا طويلًا. قد يكون هذا التشبيه ليس فقط وصفًا لسلوك، بل أيضًا تصويرًا للشخصية التي لا تجد راحة إلا في التحرك المستمر وتحدي الصعاب. وهناك صنف آخر من البشر، مقزز كالطعام الفاسد، تشعر تجاههم بالاشمئزاز والغثيان. وإذا زاد الأمر قليلاً، يُقال إن “ريحته طلعت”، إشارة إلى افتضاح أمره بتصرفات غير قانونية أو أخلاقية. هذا الطعم الذي لا تستطيع تحمله، هو في الواقع نتيجة لتصرفات لا تُطاق. هنا، يصبح المذاق الحاد أو السيئ هو انعكاس لطبائع غير مقبولة في المجتمع. لكن بعض المواقف في عالمنا تبدو حيادية، مثل الماء الذي لا طعم له ولا رائحة ولا نكهة، لكن قد تلعب دورًا مهمًا في الحفاظ على توازن حياتك من غير أن تشعر. إن المواقف التي لا تترك طعماً واضحًا في ذهنك هي التي تحافظ على هدوئك الداخلي وتسمح لك بالمرور عبر الحياة بسهولة. يقول جان جاك روسو في “الاعترافات”: “الأطعمة ليست مجرد تغذية للجسد، بل هي تعبير عن تجاربي ومشاعري، فكل وجبة أتناولها تحمل معها طعم ذكرياتي.” وأقول كما قال الجواهري: “أنا مثل الطير في الجو، أشتهي إلى نكهة الطفولة وحلاوة العيش.” إذا كانت المذاقات قد تكون جزءًا من ذاكرتنا الثقافية، فهي أيضًا جزء من تجربتنا العاطفية التي نتركها للآخرين ليذوقوها. فهل يمكن أن تكون المذاقات أكثر من مجرد طعام؟ هل يمكن أن تصبح المذاقات تعبيرًا عن مشاعرنا تجاه أخلاق الآخرين؟ فتفتح أمامنا بابًا جديدًا لفهم الأشخاص بطريقة ممتعة وسهلة. تمامًا كما أن مذاق الشوكولاتة يملأ فمنا بحلاوة لا تُنسى، يمكن لروح الإنسان أن تترك في قلوب الآخرين مذاقًا لا يُمحى، سواء كان حلوًا أم مرًا. في النهاية، تعلمت من طفلي أن المذاق الحلو لا يُنسى، وأن الأشخاص مثل الشوكولاتة، يتركون أثرًا يدوم في قلوبنا. قد نكون حلوين كالعسل أو حارين كالفلفل، ولكن في النهاية، نترك مذاقنا الخاص الذي يُعبّر عن هويتنا ومشاعرنا.