جدة وطرف من ذكرى.
للأماكن سحرها وعبقها وذاكرتها الحيّة، ورائع ما يحدث من استثمار ثقافي وسياحي لعدد واسع من المعالم التاريخية والحضارية في مختلف مناطق بلادنا العزيزة بامتداد جغرافيتها ؛ استثمار نابع من روح المكان وشخصيته مع إضافات رائعة على مستوى المرافق، والخدمات يشعر بها الجميع. وبمجرد أن تركن سيارتك في مكان داخل مدينتك تجد نفسك محاطًا بالأسواق والمطاعم والمقاهي الأنيقة، وجميع الخدمات ويمكنك أن تقضي ساعات دون أن تشعر بالملل. ولجدّة (المكان والناس) في خاطري الكثير من الذكريات، وقد درّست بها عامًا كاملا قبل ثلاثة عقود، وأنا أتردّد عليها هذه الأيام طالبًا في الدراسات العليا، وأتجوّل فيها كلما وجدت فرصة سانحة مع بعض الأقارب والأصدقاء. وطبيعي أن يأخذني الشجن وأتذكّر الأماكن التي سكنت فيها “شمال جدة”، وكذلك الشوارع التي كنا نذرعها شبّانًا في أول محطّاتنا العملية، وإنْ تطوّرت جدة ونمت كطبيعة المدن لكن عبق المكان وجاذبيته يبقى وتعتّقه الأيام. وقد زرت منطقة البلد “جدة التاريخية” التي تعجّ بالناس من داخل جدة وخارجها، حيث تمتدّ بيوت أهالي جدة القديمة، وترى الرواشين الخشبية والأبواب العتيقة والمقاهي والمعارض الفنية، والمحلات التجارية. وتشعر بلمسات عصرية تضفي على المكان رونقا وبهاء دون أن تخرجه من روحه. ومن الصعوبة أن أكتب عن جدة، ولا أتذكّر قصيدة الشاعر الفذّ حمزة شحاته: النُّهى بينَ شاطِئَيْكِ غَرِيقُ والهَوَى فيكِ حالمٌ، ما يُفيقُ وَرُؤَى الحُبِّ في رِحابِك شَتَّى يَستَفِزُّ الأسيرَ منها الطَّليقُ وَمَغانيكِ، في النّفوس الصَّديَّا تِ إلى رَيِّها المَنِيعِ، رَحيقُ ولم يزدهر الشعر العربي بمثل “عامل المكان” منذ أن صدح امرؤ القيس بمعلقته:”قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ..” وحتى قبل ذلك. أما جدة فكانت ولا زالت ملهمة الشعراء، يقول الشاعر السعودي محمد حسن فقي: يا مَغانِي الجَمالِ والسِّحرِ والفِتْنَةِ يا حُلْوَةَ الرُّؤى والمَخائِلْ! حَضَنَ البَحْرُ دُرَّةً. وحَنا البَرُّ عليها.. بِرَوْضِهِ والخمائِلْ! وأنا هنا أتناول طرفا من ذكريات عابرة لم تتوغّل في سيرة جدة المكان والتاريخ والإنسان بعمق. ومن أراد أن يقرأ عن جدة، ويقف على شخصيتها وحكاية إنسانها، عليه أن يعود لكتابات الأديب والروائي محمد صادق ذياب رحمه الله ، من بينها كتابه “جدة التاريخ والحياة الاجتماعية”. وكذلك كتابات الأديب عبدالله منّاع، رحمة الله عليه.