القراءة والشخصية المستقلة.

صحيح أن من يقرأ لكاتب ما فإنه قد يتأثر بما يقرأ، ما قد يعني أيضًا اعتناقًا منه لبعض أفكاره وتوجهاته ولو جزئيًّا، لكنه مع مرور الوقت وتزايد القراءات سوف يتمكن من تشكيل شخصيته المستقلة اعتمادًا على استعداداته الذاتية ورغباته الشخصية وما يتلاءم مع مجتمعه القريب وتوجهه الديني والوطني، وهو ما يتطابق مع مقولة: “القراءة هي الطريقة التي تسمح لنا باستعارة عقل شخص آخر لفترة، لنرى العالم بعيون غريبة”، ومع المقولة الإسلامية الشهيرة: “من شاور الناس شاركهم في عقولهم”. لكن هذا ليس حتميًّا؛ بل رهن بالقراءة الواعية والتفكير الحر الناقد الذي يستقبل الأفكار لكنه يغربلها ويتقبل منها ما يناسبه، ويرفض ما لا يراه كذلك، كل ذلك مع إعمال الفكر فيها لوقت كاف قبل الخروج بموقف نهائي تجاهها. وكلما قرأ المرء أكثر تعرض أكثر لآراء وأفكار متنوعة ومتعددة في مختلف الاتجاهات، وهو ما يدفعه بمرور الوقت إلى المقارنة والتحليل ورؤية الأمور من أكثر من زاوية، ومن ثم تقوية أدوات التفكير المنطقي وتعزيز روح النقد تجاه ما يقرأ، وهو بدوره ما يؤدي إلى تشكيل آراء خاصة به في مختلف الأمور؛ أي تكوين شخصية مستقلة. فبالقراءة يمكن للمرء أن يحترم رأي الآخر دون أن يتبناه بالضرورة، ذلك أنه قد اكتسب القدرة على تفهم وجهات نظر الآخرين ومبررات ذلك. وحين يقرأ أحدنا رواية استثنائية أو بعض روايات الخيال العلمي مثلًا فإن ذلك يحفز خياله، وقد يدفعه للتفكير خارج الصندوق في حياته اليومية الشخصية أو العملية، وهو ما قد يزيد بمرور الوقت من قدرته على التفكير المحايد، ومن ثم بناء شخصيته المستقلة. أما الابتعاد عن القراءة فيجعل الدماغ في حال من الاسترخاء وفيما يسمى منطقة الراحة، وهو ما يدفع بشكل طبيعي إلى اتباع الحشود التي لا يُعلم في أي اتجاه تذهب، لكنها في الغالب تشل قدرة الأفراد على تكوين شخصياتهم المستقلة، مذيبة إياهم في بوتقة واحدة ليست بالضرورة هي الصائبة، والخيار دائمًا بأيدينا. وجماع القول أن القراءة مهما جعلت القارئ يتعرض لعدد كبير من الآراء والأفكار من منابع مختلفة قد تكون حتى متصادمة مع قناعاته ومعتقداته الراسخة؛ فإنها مع الوقت تجعله قادرًا على تمييز السمين من الغث وعلى التقاط الأفكار البناءة ونبذ الهدامة، وهو ما يساهم في بناء شخصية قوية ومستقلة لا تتأثر بالرياح التي تهب يمينًا وشمالًا، أو الهجمات الفكرية التي تستهدف زعزعة قناعاته.