اللغة العربية.. هوية وتواصل

في أكتوبر من عام 2005، جاء قرار “اليونيسكو” ليعلن عام 2008 “عاماً دولياً للغات”، استجابةً لتنامي التهديدات التي تلاحق تنوع اللغات. فاللغة، كأداة تواصل، هي سر الوجود، وبدونها يضيع التواصل، ويغلق طريق التغيير والتطور. هي الصلة بين الأفكار والقلوب، والمفتاح الذي يفتح أبواب العالم أو يغلقها. وفي هذا الإطار، يزدان اليوم العالمي للغة العربية، الذي يُحتفى به في الثامن عشر من ديسمبر كل عام، ليكون بمثابة ذكرى لاعتراف الأمم المتحدة بالعربية كإحدى لغات العمل الست، تُستخدم في اجتماعاتها وتُكتب بها وثائقها الرسمية. تلك اللغة التي تنبض بأسرارها وأصالتها، وتهز المشاعر بألفاظها، هي اليوم واحدة من أكثر اللغات انتشاراً على وجه الأرض، إذ يتحدث بها نحو مليار نسمة من مسلمي العالم. لكن وسط هذه الأهمية، يظهر تناقض غريب. فعلى الرغم من أن اللغة العربية تُعتبر من أعظم أدوات التواصل في عالمنا، نراها تهمش في فضاء الإنترنت. فالمواقع الإلكترونية التي تخاطب العرب، لا تكاد تعرض نفسها بلغة عربية، بل تجعلها لغة ثانية، في حين أن زوارها يتحدثون بها. وعلى منصات التواصل الاجتماعي، نجد الأسماء تُكتب بالحروف اللاتينية، مع أن هناك خياراً متاحاً لاستخدام الحروف العربية. والأكثر غرابة أن بعض الكتابات والتعليقات تكتب بحروف لاتينية تحمل معاني عربية، فتختلط الأصوات وتُشوه المعاني. أما بين المهاجرين العرب في البلدان الغربية، فالحال أشد وطأة. فاللغة العربية تكاد تختفي من حياتهم اليومية، وتقتصر على بعض المحادثات العابرة في البيوت أو عبر الهاتف مع الأهل. ومن هنا، تنشأ أجيال جديدة تحمل في لغتها هُويةً مكسرة، بعيدة عن أصالة كلماتها، بسبب انقطاعها عن مدارس اللغة العربية في تلك البلدان. ومع ذلك، فإن اليوم العالمي للغة العربية يأتي ليعيد إلى الأذهان مكانة هذه اللغة العريقة. ليس مجرد يوم للاحتفال، بل دعوة مخلصة للعودة إلى الجذور، إلى لغة الشعر والجمال، لغة التراث والحضارة. هي لغة تجمع بين التراكيب السلسة والكلمات العميقة، وتستوعب كل جديد، وتفهم كل فكرة. ببلاغتها وفصاحتها، تظل العربية قادرة على العطاء، على مر العصور، كأنها شجرة مثمرة لا تذبل أبداً. وفي عصر الترجمة الفورية والتقنيات الحديثة التي تسمح لنا بالتواصل بلغة الآخر دون حواجز، تبقى اللغة العربية راسخة في جذورها، قادرة على التكيف، لكنها لا تفقد هويتها. اليوم ليس مجرد مناسبة، بل هو دعوة لكل فرد منا أن يعيد اكتشاف لغته، أن يعيد الاعتبار للكلمة العربية، تلك التي تحمل بين ثناياها قلب الأمة وروحها.