إذا أردت الهجرة إلى فرنسا خذ صديقك معك!.
(1) نشر موقع CNN Travel الأسبوع الماضي حكاية زوجين أميركيين قررا الهجرة من أميركا إلى فرنسا، واستكمال حياتهما الزوجية، التي بدأت متأخرة، هناك. السيد إد والسيدة جوانا يبلغان من العمر ٧٥ عاماً، وتزوجا قبل ٢٠ عاماً فقط، وقد يسّر لهما قرار الهجرة أنهما بلا أولاد وبلا أي التزام وظيفي أو عائلي، ولديهما مدخول مادي جيد. في أكتوبر ٢٠٢٣ انتقل الزوجان من المدينة الأميركية الكبيرة الصاخبة سان فرانسيسكو إلى مدينة صغيرة هادئة جدا في الجنوب الفرنسي (نيم Nimes) لا يكاد يعرفها بعض الفرنسيين. في حوارها مع الCNN تتحدث السيدة جوانا عن الصدمة التي أصابتهما من طريقة العيش “المعقدة” في فرنسا، حيث: البيروقراطية في الإجراءات والغلاء في المعيشة والفردانية في العلاقات الاجتماعية، وغيرها من الملاحظات والشكاوى التي جعلت الزوجين بعد مضي عام واحد فقط يقرران إلغاء قرار الهجرة إلى فرنسا والعودة إلى سان فرانسيسكو! (2) وقبل أن أسترسل في الحديث أود التذكير بأن ما يحويه هذا المقال هو انطباعات شخصية وليست أحكاماً مبنية على دراسات أو إحصائيات. فحكاية إد وجوانا تنقض انطباعاً ترسّخ لدينا لزمن طويل مفاده أن (الغرب) كتلة واحدة، سياسياً وثقافياً واجتماعياً. الغرب ليس واحداً، وإذا كان لا بد من الاسم التعميمي فإن الغرب غربان: أميركا وأوروبا. وإذا أردت أن أتمادى في التفصيل أكثر فإن الغرب ثلاثة: أميركا وأوروبا وفرنسا! لا تخفى على كثيرين الفروقات بين أميركا وأوروبا، لكن قد تخفى عليهم الفروقات بين فرنسا وبقية أوروبا، من حيث السلوك المعيشي والحياة المجتمعية. وهو ما يبدو أنه قد خفي عن ذهن المهاجرَين الأميركيين قبل أن يتخذا قرار الهجرة إلى فرنسا. سأعطي فرقاً أوروبياً واحداً للتمثيل: الفرنسي قد يقترض لأجل تجربة مطعم جديد، أو لأجل شراء جاكيت نزل حديثاً في الأسواق، بينما قد يقوم الإنجليزي بإقراض جاكيته العتيق لصديقه من أجل زيادة رصيده البنكي المتراكم، في حين قد يقوم الإيطالي بإعطاء جاكيته الجديد لصديقه بلا مقابل! (3) سأعلق بإيجاز على بعض الملامح التي أشارت لها السيدة جوانا في حديثها عن تجربة الهجرة، من واقع تجربتي في العيش في فرنسا مدة عشر سنوات. - البيروقراطية: فرنسا قد تكون فعلاً أكثر دولة بيروقراطية في أوروبا. والذي يأتي من أميركا الميسّرة في إجراءاتها بالطبع سينصدم من إجراءات فرنسا التي ما زالت في كثير منها ورقية حتى اليوم. (وللإنصاف، فإن الأميركي لو هاجر إلى السعودية اليوم لوجد الفارق في التسهيلات في غير صالح أميركا، خصوصا أميركا ما بعد أحداث سبتمبر). فحكايات الرخصة أو الجواز الذي تستخرجه بجوالك وأنت على سريرك، هذه من أحلام ألف ليلة وليلة في المقياس الفرنسي. ولو أردت أن تسحب من حسابك البنكي في فرنسا مبلغ ٥٠٠٠ يورو كما نسحب هنا فوراً عبر الصراف الآلي ٥٠٠٠ ريال فإنك ستحتاج إلى معاملة قد تستغرق يومين أو ثلاثة. - الصداقة: الأميركيون هم أكثر “الغربيين” عِشرة وعفوية وتودد مقارنة بالأوروبيين. أما الفرنسيون فربما يكونون أصعب الناس في ذلك مقارنة ببقية الأوروبيين (الإيطالي والأسباني واليوناني، وحتى الإنجليزي)، ولذا فمن الأفضل إذا أردت الهجرة إلى فرنسا أن تأخذ أصدقاءك معك! - الأكل: وصل الاستياء لدى “الأميركية” جوانا أن الأكل الفرنسي لم يعجبها ولم تجد فيه ما يستحق السمعة الذائعة عنه. هذه طبعا مسألة ذوقية، والحقيقة أن المطبخ الفرنسي ليس له أطباق محددة (كالمطبخ الإيطالي أو الهندي أو المغربي) ولكن له طريقة في طبخ الأطباق التي يمكن أن تجدها في أنحاء العالم، لكنك لن تجد فيها موازين النكهة الفرنسية في الطبخ وأناقة التقديم والتخديم. وربما جاز لإيطالي أو هندي أو مغربي أن ينتقد الأكل الفرنسي، لكن أن تقوم أميركية بذلك فيدل على أن هامش الحرية في التفكير لدى الإنسان الأميركي واسع جداً! تستطيع أن تقول رأيك في كل شئ في هذا العالم كما تشاء، لكن حين يأتي الحديث عن الفن والذوق والجمال فدع الحديث للفرنسيين. (4) الحقيقة المؤكدة أن أميركا وفرنسا الآن ليستا كما كانتا قبل عشرين عاماً، العالم تغير، وموازين المقارنات تبدلت، وبعض دول ما يسمى العالم الثالث أصبحت متقدمة في سهولة الحياة اليومية بما يفوق بعض دول العالم الأول. يبدو أن الأخت جوانا وزوجها لم يتأخرا في الزواج فقط، بل وفي الهجرة أيضا!