أحزان الكتابة

كما أن للكتابةِ أفراحُها فلها أحزانٌ، وأوجاعٌ، ومخاطرٌ؛ فالكتابةُ مسؤوليةٌ، والقلمُ كالمشرطِ، يصيبُ المَحَزَّ فَيُشفِي، أو يقطعُ شريانًا فيقتلُ، ومع ذلك يَتَجَشَّمُها المغرمُ بالكلمةِ، المُتَعَلِّقِ بالحرف، ويتحمَّلُ مخاضَها المُرهق؛ منذُ أن تلوحَ له الفكرةُ كشبحٍ عَصِيًّ الملامح، حتى يتمثَّلَها، أو تغيبَ في السَّدِيمِ، ويبقى فِكْرُهُ معلَّقًا بأثرِها، وفي صدرِه منها شيءٌ، أو تأتي في غيرِ أوانها؛ أو تزورُ في الظلامِ، فهل يترُكُها وينعمُ بنومِه؟ أم يستقوي على النومِ ويُدَونُّها لألا يَفقدَها إلى الأبد؟ يَحارُ بين الأمرين وكلاهُما مُرٌّ. فإن لانَتْ له الفِكْرَةُ، وأسلمتْهُ قيادَها فما أكثرَ ما تخذلُه اللُّغةُ؛ فيعجزُ عن الإبانَةِ عَمَّا يختلِجُ في صدرِه، ويعتملُ في فِكْرِهِ. ثم ها هو يَكتبُ ويمحو، فإذا تمَّ النَّصُ إذا هو غريبٌ عَنْه لطولِ ما أعملَ فيه مِن التَّعدِيلِ والتَّبدِيلِ؛ متوسِّلاً بألين الأساليبِ إلى فَهْمِ القارئ، وحَدْسِ الرُّقَباء. وربما أجهدَ فكرَه ونَفَذَ إلى أعمقِ المعاني فَتَلَقَّى النَّصَ ناقدٌ لا يُجاوزُ السَّطْحَ، فيحتارُ مرةً أخرى أيلومُ النَّاقِدَ؟ أم يُلقي باللومِ على أدواتِه؟! وكِلا الأمرين يُؤلم. فإذا انجلى النصُّ منشورًا، بعد مساومِة المحررين على عددِ الكلمات، وربما بعضِ المعاني،فقد آنَ للنَّصِ أن يَحْنِي رَقَبَتَه للتأويلِوالإسقاطِ، على كاتِبِهِ، أو مُحيطِه؛ وما الكتابةُ إلا تعريةٌ لِذَاتِ الكاتبِ، تدفعُ القُراء أن يضعوا مقاطِعَمِن وجدانِه تحتَ المِجهرِ، ويَعْبُرُ فضولُهم عَبْرَ النَّصِّ إلى رنينِ قلبِه. وما أتعسَ كاتبٍ يُجهِدُ فِكرَهُ وقَلَمَهُ ثم يجيء بمعادٍ من القولِ، وما أكثرَ الوقوعَ في هذا المأزقِ؛ فيحتارُ بين طَيِّهِ وكتمانِهِ، أو نشرِهِ وإعلانِه، وكِلا الأمرين مُمِضٌ. والكاتبُ من ضميرِه، وتقاليدِ مجتَمَعِهِ، ورَقاباتِهِ كَمَن يسيرُ على حدِّ سِكين، وربما غابَتْعنه فكرةٌ في صُلْبِ موضوعِه، وهو مُنشَغِلٌبتخطي المحاذير، ثم تجيئُهُ بعدَ النَّشرِ، كأنَّما تَمُدُّ إليهِ لسانَها ساخرةً، فلا تَسَلْ عَن أسَفِهِ. فإن أرادَ نَشرَ كتابِهِ فقد استوى لمناشيرِ النَّاشرين، وسيدخلُ في صِراعٍ بين الجودةِ والقيمةِ،وسيقتَطِعُ مِن قوتِ عِيالِه ليُرضِي نرجسيتَهُ، ويَرى كلماتِه بين يدي النَّاسِ وعلى ألسنتِهم، فإن أوقعَهُ حَظُّهُ العاثرُ في ناشرٍ مُؤلِّفٍ يَنْشِرُ كُتُبَهُ أيضًا، فسيكونُ كِتابُه كابنِ الزوجِة اليتيمِ؛ مدفوعًافي كُلِّ مقامٍ إلى ما وراءَ الأبناءِ، وقلَّما رضي كَاتِبٌ عن ناشرٍ. فإن بَلَغَ - بعدَ هذا العناءِ - الغايةَ، وقدَّمَ عملاًناضِجًا مَرْضِيًا فما نَضَجَ إلا على جمرِأعصابِه، فليَفْرَح قليلًا ثم ليَبْدأ رحلةَ العناءِ مِن جديد.