الجدوى الثقافية.
لا يفكر الإنسان في غايته من التنفس لكنه يتنفس، وهو بذلك بعيد جدا عن الجدوى الحقيقية من أنه يتنفس كي يبقى على قيد الحياة، مع أنه يعلم جيدا بأنه يموت حين لا يتنفس، لكن لا يفعل ذلك تمسّكا بالحياة أو طمعا بها، لأن التنفس وظيفة تلقائية غير قابلة للتفكير ولا حتى القرار. أغلب الأحيان يكون الكلام لأجل الكلام فقط، وهو مثل التنفس، بل هو غريزة واشتهاء، وإلا ما معنى وما فائدة أن تردد قصيدة مثل ( صوت صفير البلبل..) سوى جدوى الكلام، ذلك لأن البوح تنفس الذات وأي كلام يعد ملمحا أصيلا من ملامح الهوية؛ أليست اللغة من أهم مقومات الهوية، وعلامة تعريفية تتضمن رسالة شارحة لقيمة المتكلم وشأنه؟ ذلك هو البوح غير الإبداعي، فكيف بالبوح الوجداني أو النشاط التخييلي الذي أداته اللغة؟ درسنا الأغراض الشعرية بالطريقة المقيتة التي جلدنا بها نقاد الأدب والبلاغيون، لكننا لم نفكر بغرضية الشاعر أو جدواه، فالشعر هو الرسالة والمُرسِل له غرض ينشده غير الطلب الآني اللحظوي والمرسل إليه لن يكون هو نفسه في كل اللحظات، بل حتى في اللحظة نفسها التي تصل فيها الرسالة إلى وجهتها اللحظوية، هناك أكثر من مرسل إليه لا ينتظر هذه الرسالة، لكن المرسل يريد إيصالها وحين تصل تتحقق الجدوى الثقافية. الجدوى الثقافية مصطلح اجترحته في كتابي الجديد ( النسق الثالث)، وهو ثالث النسقين الثقافيين، الظاهر والمضمر، وبهذا النسق نستطيع أن نصل إلى الجدوى الثقافية التي ينتظرها هذا الروائي أو ذاك الشاعر، ومثلهما الفنان والناقد وكل منهمك في الإبداع. لا شيء بلا جدوى، وقديما طلب أبو الطيب المتنبي جدوى ليس لغيره أن يفكر بها أو يطلبها، بل كأنه حقق كل ما يطلبه البشر من جدوى، فراح ينافس الزمن على جدواه: أريد من زمني ذا أن يبلغني ما ليس يبلغه من نفسه الزمنُ وهي جدوى لم يطلبها الزمن نفسه لنفســه؛ وكل ابن آدم يريد، ومن الفعل ( يريد) جاءت الإرادة، والإرادة مطية المرء إلى جدواه. لقد تحقق للمتنبي ما لا يحلم به شاعر من جدوى، بل أتأم الزمن وصار توأمه الخالد معه، حتى جعله موظفا لديه وراوياً من رواة قصائده: وما الدهر إلا من رواة قصائدي إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا لكنّ أبا الطيب في لحظة احتياج تطلعية انتبه إلى موظفه الزمن الذي هو من رواة قصائده، وطلب منه ألّا يكتفي برواية قصائده، بل عليه أن يحمل المتنبي ويوصله إلى ما لم يصله الزمن نفسه!!؛ فأية جدوى ثقافية عظيمة هذه!. هناك فرق كبير بين ما يريده الشاعر من شعره، وما يريده بشعره، فالذي يريده بشعره هو اللحظوي وما يريده منه هو الجدوى الثقافية، ولعل جدوى المتنبي من زمنه تبدو خارج الأنساق ولم يطلبها غيره، وليس هذا مقام التفصيل بماهيتها، لكن لكل صاحب منجز إبداعي جدواه، والنســق الثالث هو الوسيلة إليها.