مستور العصيمي..برع في لون مميز من الشعر الشعبي لأكثر من 70 عامًا :
شاعر «القلطة» وفارس المحاورة .
يأتي الشاعر مستور العصيمي رحمه الله في رأس قائمة أبرز الشعراء الشعبيين في المملكة العربية السعودية ودول الخليج، حيث برع في شعر المحاورة أو ما يعرف بـ «القلطة»، وكان يلقب بـ «أسد المحاورة» وبـ «شاعر عتيبة» و«ملك المعنى»، ويعد من أقدم الذين اختاروا هذا اللون من الشعر الشعبي وتميزوا فيه، وظل يصول ويجول في ساحات المحاورة لما يقرب من 70 عامًا. مستور بن تركي العصيمي من مواليد وادي بسل الواقع شرق مدينة الطائف، عام 1347هـ (1928 م)، وبدأ مشواره في الشعر عام 1370هـ بعد أن تلقى تعليمًا أوليًا في الكتاتيب كحال غيره من أبناء جيله، فتعلم القراءة والكتابة، وأولع بشعر القلطة منذ صغره حيث تشتهر الطائف بعقدها للعديد من سجالات الشعر الشعبي وشعر المحاورة أو القلطة تحديدًا، خصوصًا في المناسبات والأعياد، حيث تشارك فيها القبائل ويفاخر كل منها بشاعره، حيث تعد موروثًا شعبيًا للسكان في قرى الطائف بشكل عام. وقد عرّف الكاتب عبدالعزيز القاضي هذا اللون من الشعر الشعبي حيث كتب في صحيفة (الجزيرة): القلطة هي الفن الشعري المعروف هذه الأيام باسم (المحاورة) وإلى وقت قريب باسم (المرادّ) بتشديد الدال، وكذلك (الرِديّة) بكسر الراء وتشديد الياء، وهذا المصطلح هو اسمها الأشهر، ويقال إن المحاورة كان يُطلق عليها في الحجاز قديمًا اسم (المبادعة). والمحاورة سجال شعري فوري مرتجل يدور بين شاعرين وصفّين من المرددين، وجمهور حاضر في ساحة معدة لها تسمى (الملعبة)، فينشد أحد الشاعرين بيتًا ليردد بعده أحد الصفين الشطر الثاني منه، والصف الآخر الشطر الأول، وقد يصاحب الترديد تصفيق وتمايل ورقص.. ويظل الصفان يرددان حتى يوقفهما الشاعر الآخر بإشارة منه لينشد بيته أو الشاعر الأول لإنشاد بيته الثاني؛ لأن أغلب المحاورات تقوم على بيتين بيتين. ومتعة المحاورة لا تكمن في إنشاد الشعر وغنائه وترديده فقط، بل تكمن في الحوار المعمى والمعنى المستور الذي يدور بين الشاعرين. وأبرز سمات المحاورة هي: التحدي، والتعمية، والتلميح، وتوظيف الحكمة والمثل”. وشعر المحاورة يعتمد على سرعة بديهة الشاعر وذكائه لأنه شعر مرتجل يتم غناؤه بلحن معين يسمى (الطرق أو الطاروق) بين شاعرين أو أكثر، ويعتمد شعر المحاورة على (النقض والفتل) وأركان شعر المحاورة هي (الوزن والقافية والفتل والنقض والمعنى واللحن والارتجال) ومما اشتهر به شعر المحاورة (دفن المعنى) والمقصود فيه الرمزية أو التورية ومن خلالها تبرز ندّية الشعراء المتنافسين في دقة المعنى. بروزه وشهرته في شعر القلطة التحق مستور العصيمي بكتائب المجاهدين التابعة لوزارة الداخلية في سن الـ 25، كما عمل في مهن أخرى، لكن شعر القلطة استهواه بعد أن برع فيه واشتهر، فخصص له جل وقته فيما بعد. وتعود شهرة مستور العصيمي إلى دخوله في سجالات شعرية مع كبار رموز شعر القلطة أو المحاورة، أمثال عبدالله المسعودي ومحمد الجبرتي ومطلق الثبيتي ومعيض العجي وصياف الحربي ورشيد الزلامي وجارالله السواط وأحمد الناصر الشايع وشليويح المطيري ومحمد بن جرشان وخلف بن هذال وفيصل الرياحي وغيرهم. كما اشتهر العصيمي بعد ظهور القنوات الفضائية حيث انتشرت بعض القنوات المتخصصة في الشعر الشعبي، مثل قناة الواحة والدانة وصدى والمرقاب وقناة الصحراء والبوادي والساحة وغيرها، وظهر أيضًا في برنامج (من البادية) الذي كان يعرض على القناة الأولى في التلفزيون السعودي، حيث استضيف العصيمي في العديد من تلك البرامج التي فتحت له آفاقًا جديدة من الشهرة، كما شارك مرات عديدة في “مهرجان الجنادرية للتراث والثقافة” وفي ليالي ملتقى “المغترة”. وأصبح اسم العصيمي أكثر تداولًا وشهرة بعد ظهور منصات التواصل الاجتماعي، وهو ما عزز من شهرته ومكانته في السعودية ودول الخليج. وفي حوار مع مجلة (المختلف) قال الراحل في إجابة عن سؤال حول ما دونه بعد تجربته الطويلة في ساحات المحاورة: “دونت أصدقاء ومحبين وجماهير أتمنى أن أكون قد وفقت في إرضاءهم طيلة هذه الفترة، كما أنني دونت أيضًا معرفة رجال أكن لهم كل تقدير، هي في الواقع تجربة عمر وسنين طوال لا يمكن اختصارها في هذه العجالة، ولكن على كل حال هي تجربة أعتز بها كثيرًا فشكرًا للشعر الذي عرفني وأهداني “حياة” كاملة عرفت فيها كل شيء ودونت فيها تجاربًا عدة، أتمنى من كل قلبي أن يكون مستور العصيمي قد أرضى فيها كل متابعيه وحقق لهم كل رغباتهم وهو الشيء الذي كنت أحرص عليه خلال هذا المشوار الطويل”. وأشار الشاعر العصيمي في الحوار ذاته إلى أنه أوكل مهمة جمع محاوراته والإشراف عليها للأستاذ سعود بن مسفر العصيمي، وهو موجه سابق في وزارة التعليم، حيث كان الأخير بصدد إصدار ديوان يضم أغلب محاورات العصيمي والقصائد التي قالها في بعض المناسبات، لكن لا يعلم ما حدث بخصوص ذلك الديوان. وفي حوار مع صحيفة الجزيرة، نفى العصيمي وجود خلافات بين شعراء القلطة حيث قال: “الخلافات التي تحدثت عنها شكلية، تعرض واقع وطبيعة المحاورة، ولكن لا يوجد خلافات بين الشعراء ولا بين الجماهير كما تتصورون، ولكن هذا فقط حماس وتفاعل من شاعر ضد شاعر، ومن جمهور شاعر ضد جمهور آخر، ولكن تبقى المحاورة ميدانًا ومعتركًا للتنافس الجميل”. كرمه صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر بن عبدالعزيز أمير منطقة القصيم سابقًا، وأمير منطقة الرياض حاليًا، خلال فعاليات الأمسيات الشعرية للأسبوع الشعبي الذي أقيم على هامش مهرجان عنيزة السياحي عام 1426هـ وذلك بمقر مركز الملك فهد الحضاري بمحافظة عنيزة. كما تم تكريم العصيمي في حفل كبير بالطائف عام 1436هـ شهد حضورًا مميزًا من محبي الشاعر وشيوخ وأعيان ووجهاء المجتمع. قصيدته المكتوبة الوحيدة على الرغم من أن العصيمي له آلاف من القصائد المحكية في شعر المحاورة، إلا إنه لم يعرف عنه سوى قصيدة مكتوبة وحيدة، وهي قصيدة اعتذار لصاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن فهد بن عبدالعزيز، بعد أن وشى به بعض حساده. مواقفه النبيلة عرف الشاعر مستور العصيمي بمواقفه النبيلة وحبه لمساعدة الآخرين وكرمه وتميزه بالأخلاق الحميدة، ومن أشهر تلك المواقف سعيه ومساهمته في إطلاق سراح أحد السعوديين المسجونين في العاصمة اليمنية صنعاء. وتعود أحداث تلك القصة إلى السبعينات الميلادية عندما كان العصيمي في زيارة إلى اليمن فسمع بقصة مواطن من قبيلة يام مسجون في أحد سجون صنعاء لسبب كيدي، فتقصى عن الأمر ووجد أبناء عمومة ذلك السجين وتثبت من الواقعة، ثم طلب مقابلة السفير السعودي في صنعاء، الذي كان وقتها الأمير مساعد بن أحمد السديري -رحمه الله-، وقبل أن يكون سفيرًا كان أميرًا لمنطقة تبوك، ولم يكن الشاعر يعرف السفير، وعندما تم السماح له بمقابلته قال في بيتين من الشعر: سلام يا المأمون مأمون الملوك هدية تهدى عليك بلا ثمن بغيت أزورك عام الأول في تبوك واليوم زرتك وأنت في صنعاء اليمن وقد روى تفاصيل القصة الشاعر المعروف حبيب العازمي الذي قال في مقابلة مع صحيفة (سبق): “استقبله السفير “السديري” وشرح الراحل قصة السجين اليامي، وقال: ساقني إليك وطنيتي، ولأن السبب في سجنه أمر كيدي، وبعد ذلك اتصل السفير الأمير مساعد بن أحمد السديري على رئيس الجمهورية اليمنية آنذاك إبراهيم بن محمد الحَمْدي، وبعد توضيح الحقيقة وملابسات القضية؛ الأمر الذي أثمر بإطلاق سراح المواطن، وفي أقل من ساعتين تم إحضاره إلى مقر السفارة، وخرج مع الراحل، وأتى به إلى أبناء عمومته في الموقف، وثمن ذوو اليامي موقف الشاعر مستور العصيمي النبيل، وسألوه: متى ستذهب إلى السعودية، وقال الشاعر: اليوم، وبعد وصول الشاعر مستور إلى منفذ الحدود السعودية، فاجؤوا ذوي المطلق سراحه، وألزموا الشاعر بأن يذهب معهم إلى منازلهم، وأكرموه وأهدوه وشكروه على موقفه الوطني والإنساني النبيل”. كما يذكر له موقفه النبيل مع راعي أغنام كان يعمل في مزرعته، حيث وجده مكتئبًا حزينًا، وتبين أن زوجته كانت مريضة وأنه بحاجة إلى المال لكي يكمل علاجها، فما كان منه إلا أن تبرع له بكامل التكاليف. تزوج العصيمي في حياته مرتين الأولى في عام 1388هـ، وأنجب ابنته البكر، ثم توفيت زوجته مع ابنتها بعد مرور عام، بعد أن أصابهما مرض، وتزوج زوجته الثانية عام 1391هـ في مكة المكرمة، وأنجب ثلاثة أبناء، هم: تركي وسلطان وعبدالله، وخمس بنات. وفاته ونعيه توفي رحمه الله في29 جمادى الآخرة عام 1442هـ (13 يناير 2021م) عن عمر ناهز 92 عامًا بعد معاناة مع المرض. وضجت مواقع التواصل الاجتماعي بنعيه من كبار الرموز الشعرية والإعلامية، إذ كتب المستشار الإعلامي مبارك العصيمي: “لَحِقَ مستور برفيقي دربه العملاقين مطلق الثبيتي ورشيد الزلامي، دواهي شعر المحاورة وصُنَّاع مُتعته وفرسان القبيلة في ميادين الفتل والنقض، رحمهم الله جميعًا وأسكنهم فسيح جناته”. أما محمد بن حوقان المالكي فقال في تغريدة له: “بفقد مستور العصيمي تفقد ساحة المحاورة ركنًا من أركانها وشاعرًا من الطراز الأول، وعملاق الشعر ومرجله. عزاؤنا لقبيلة عتيبة كافة، وقبيلة العصمة وأسرته ومحبيه في منطقة الخليج”. ومن بين من رثاه شعرًا زميله الشاعر سعد الشلوي الذي قال فيه: النقض والفتل مع مستور مفتاحه من عقب مستور لا شعر ولا معنى غاب العصيمي وخليت شاشة الساحة من عاد يطرب جماهيره ليا غنى كما رثاه الشاعر مبارك بن شافي بقصيدة مؤثرة قال فيها: مستور.. على وين ؟ من خلّيت للشعر يا مستور؟ وللمرجلة يا شيخ أهلها وراعيها وصلني خبرْك وقمت من مجلسي مذعور أفكّر بحاضر معرفتنا وماضيها وتداول رواد منصات التواصل الاجتماعي بعض الأبيات التي عرفت عن الشاعر ومن أشهرها هذين البيتين: ياحليل العافية يا صاحبي .. والعمر فاني لو تطول وتنقصر دنياك ماتلحق مداها وأيضًا بيتين قال فيها: يا عامرين البيوت ونازلين البيوت ومزخرفين المداخل بالحجر والرخام ضاعفتوا الجهد لبيوتٍ مافيها ثبوت ونسيتوا الجهد لبيوت البقا والمقام