في رواية «بائع الكتب القديمة»:

مانديل… الرجل الذي احتمى بالكتب كي لا يبتلّ قلبه بالواقع.

لم يكن مانديل مجرّد بائع كتب قديمة، بل كان كائنًا يتغذّى من الحبر كما يتغذّى المرء من الهواء، كأن رئتيه صُمِّمتا لامتصاص الغبار العالق بين الصفحات أكثر مما صُمِّمتا لالتقاط أنفاس الحياة اليومية. وأظن أن هذا النوع من الأشخاص لا يظهر فجأة؛ بل ينمو ببطء، مثل زهرة ظلّية تبحث عن بقعة ضوء نائية، فتتشبّث بها وكأنها الخلاص الوحيد من بهتان الدنيا. في الحكاية التي صاغها ستيفان زفايغ، لا نجد بطلاً يصارع العالم، بل رجلاً يلوذ بالورق كي لا يصارعه أحد.  لم يكن مانديل يثير الانتباه لأول وهلة؛ مظهره متواضع، وملامحه تشبه تلك الوجوه العابرة التي نصادفها ثم ننساها بعد خطوات قليلة، غير أن الاقتراب منه يكشف عن شيء لا يمكن تحديده بسهولة: ذلك البريق الغريب في العين، بريق القارئ الذي عرف من النصوص ما يجعله يشكّ في صلابة الواقع. كان يشبه من أمضى عمره في مرافقة أرواح لا تُرى، وجلس إلى جوار مؤلفين ماتوا منذ قرون لكنه لا يزال يتبادل معهم همسات تُسمع داخله فقط.  وكنت كلّما فكرت فيه، شعرت أن الرجل لم يختر الكتب بقدر ما اختارته هي؛ أصابته بحمى المعرفة، ثم تركته يتخبط في نشوتها ما دام قلبه ينبض. مانديل لم يكن بائعًا يملك مكتبة، بل كان مكتبةً تجرّ جسدًا متعبًا، يتنقّل بين الأزمنة كما يتنقل آخرون بين الأزقة. كانت الكتب بالنسبة إليه أرضًا بديلة، أرضًا لا يتشقق فيها صوته، ولا يُسأل فيها عن اسمه، ولا يُحاسَب فيها على ضعفه أو هدوئه أو بطء حركته في الحياة.  ربما لهذا السبب بدا معزولًا رغم امتلائه بالمعرفة؛ وكأن كثافة ما يعرفه تحوّلت إلى جدار زجاجي عريض، يتيح له رؤية الآخرين دون أن ينجح في الوصول إليهم. ومع ذلك، لم يكن في عزلته قسوة. كانت أقرب إلى خلوة لا يدركها إلا من ذاق طعم الوحدة المختارة، تلك الوحدة التي تجتمع فيها الخسارات الصغيرة لتصنع كرامة خفية، لا يشعر بها إلا من جرّب أن يُربَّت على كتفه كتابٌ لا إنسان.  وستيفان زفايغ لم يكن محايدًا في رسم هذا الكائن العجيب. كان ينظر إليه بحنانٍ مشوب بالأسى، وكأنه يدرك أن الرجل يملك من الرهافة ما لا يساعده على العيش في عالمٍ يتطلّب خشونة معينة. فالمعرفة، حين تكثر، لا تمنح صاحبها بالضرورة سلطة أو نفوذًا، بل قد تجعله هشًّا، شفّافًا إلى حدّ يمكن لأي ريح أن تمرّ من خلاله. وهكذا يصبح العارف غريبًا، وتتورّط الثقافة في تشكيل قوقعة حول روح صاحبها، قوقعة جميلة لكنها خانقة.  ومانديل عاش في تلك القوقعة بإخلاص. كان ينام بين الكتب كما ينام طفل بين ألعابه، ويصحو عليها، ويمسح عنها الغبار كأنه يمسح عن وجه حبيبٍ يعتذر له عن غيابه الطويل. كانت علاقته بالمعرفة حميمية إلى الحدّ الذي يتلاشى فيه العالم الخارجي فلا يبقى منه سوى ضوضاء بعيدة يشبهها المرء بهدير بحر يسمع من وراء نافذة مغلقة. ومع كل ذلك، لم يكن الرجل مدركًا تمامًا لمدى ابتعاده عن الواقع؛ كان يظن أنه يعيش حياة طبيعية، بينما الحقيقة أن الحياة كانت تجري من حوله دون أن تستوقفه.  في تلك الشخصية، يكشف زفايغ جانبًا من مأساة المثقف الذي يملك كلّ شيء عدا القدرة على حماية نفسه. ذلك المثقف الذي يظن أن الكتب صالحة لردّ الأذى، ثم يكتشف، لكن بعد فوات الأوان، أن الكتب لا تقاوم الجوع، ولا تغيّر قوانين المجتمع، ولا تمنح صاحبها حصانة حين يشتبه به الآخرون. وهكذا يتحول مخزون المعرفة من نعمة إلى عبء، ومن عزاء إلى سبب إضافي للوحدة.  ورغم ذلك، من الصعب أن ننظر إلى مانديل كضحية كاملة. كان، بطريقة ما، سعيدًا بما يملك. أو لنقل إنه اخترع تعريفه الخاص للسعادة، ذلك التعريف الذي لا يحتاج إلى ضجيج ولا اعتراف ولا شهرة. يكفيه أن يجد طبعة نادرة لكتاب مغمور، أو رسالة قديمة بخطّ مؤلف يراه أعظم من ملوك الأرض، فيرتجف قلبه كما لو أنه عثر على كنز لا يُقدّر بثمن. وفي هذه اللحظة بالذات، يتحول الرجل الهادئ المتواضع إلى كائن متألق، يشعّ بفرح خالص لا يعرفه سوى القلائل الذين تربطهم بالكتب علاقة تشبه علاقة المرء بنجاته الشخصية.  ومع ذلك، حين نبتعد عن التفاصيل الصغيرة التي تشدّنا إلى مانديل، تتضح صورة أكبر: رجلٌ تماهى مع المعرفة حتى فقد الحدود التي تفصل بين الحياة والورق. هذا الذوبان، رغم جماله، يطرح سؤالًا قاسيًا عن الثمن الذي يدفعه المرء حين يجعل الكتب ملاذه الأخير. هل تتسع المكتبات لوجع البشر؟ وهل يمكن للنصوص أن تعوّض الخسارات التي لا تستطيع الكلمات إحصاءها؟  ربما حاول زفايغ الإجابة، وربما ترك الأمر معلّقًا عمداً. لكن ما نستطيع فهمه هو أن مانديل لم يكن نمطًا من البشر بقدر ما كان مرآة لقلق إنساني عميق: الحاجة إلى الانتماء إلى شيء لا يخذلنا. هو رجل وجد في الكتب عالمًا لا يُقصيه، فآثره على واقع يسرق من المرء أطرافه قطعةً بعد أخرى. وبهذا المعنى، يتحول مانديل من شخصية في رواية إلى رمز لروح تقاوم الضياع بالمعرفة، حتى لو كان الثمن عزلة تتكثّف حوله في نهاية المطاف مثل ضباب لا ينقشع.  الكتب لم تنقذه، لكنها حفظت له كرامته، ومنحته طريقة خاصة للمقاومة: مقاومة صامتة، لا تُرفع فيها الشعارات، بل تُرفع فيها العيون إلى صفحة تُقرأ بشغف، كأنها تعلم صاحبها كيف يواصل السير وهو يعرف، في قرارة قلبه، أن العالم لا يتسع إلا لمن يملك شراسة لا يملكها أمثاله. ومع ذلك، يبقى لهذه الأرواح الهادئة، المنزوعة من صخب الحياة، سحرٌ لا يفنى؛ سحر يجعل وجودها، برغم هشاشته، علامة مضيئة على أن المعرفة لا تنقذ المرء دائمًا، لكنها تمنحه على الأقل طريقة أكثر رقة للاحتمال.  saadia111@hotmail.com