من منا لم يسمع الأغنيات اليمنية والأصوات الخليجية، وهي تبدأ بعبارة “يحيى عمر قال”؟ وهل منا من تساءل: من يحيى عمر؟ وما الذي قاله؟ ظل يحيى عمر - بالنسبة لي، وربما لغيري - اسما يتردد في القصائد الشعبية اليمنية المغناة، والتي تناقلتها الأصوات الخليجية، إنْ بألحانها اليمنية الأصلية أو بألحان جديدة، حتى عثرت على ما كشف النقاب عنه حين وقفت على كتاب المؤرخ الصحفي الدكتور علي صالح الخلاقي المعنون (شل العجب .. شل الدان، ديوان يحيى عمر اليافعي مع دراسة عن حياته وأشعاره). صدر الكتاب بطبعته الأولى عام 2005 وأتبعه مؤلفه بطبعة ثانية أضاف إليها عددا مما عثر عليه من قصائد، وصدرت عن دار جامعة عدن للطباعة والنشر عام 2006. ويعد هذا الكتاب بحسب قول مؤلفه امتدادا لجهود الرعيل الأول من مؤسسي منتدى يحيى عمر للشعر والفنون. اجتهد الدكتور الخلاقي في رصد سيرة اليافعي من مظانها، ولكن بقيت جوانب في سيرته ما زالت في حاجة للبحث، وهي في غاية الأهمية؛ مثل تاريخي ميلاده ووفاته، وأولاده وأحفاده إذ خلت المصادر عن شيء من ذلك. ومن هذه الدراسة يتبين لنا أن يحيى عمر شاعر شعبي من يافع حضرموت، عاش فيما بين منتصف القرن الحادي عشر ومنتصف القرن الثاني عشر الهجريين، وقضى شطرا من عمره رحَّالا يتردد على الهند، وبخاصة بَرودا وهندستان ومدراس وكلكتا، وفي طريق ذهابه وعودته كان يتوقف في عُمان أو البحرين. يُعَد يحيى عمر رائد الأغنية اليافعية، فلم تقتصر شهرته على الشعر فحسب، فقد كان ملحنا وعازفا ومؤديا أيضا. وما يميز الغناء اليافعي الذي ابتدعه يحيى عمر هو الإيقاع، الذي استحوذ على إعجاب فناني الجزيرة والخليج، فأخذوا يجارونه إلى اليوم رغم مرور ثلاثة قرون. وأشهر الذين أدوا أغنياته وألحانه من مطربي اليمن إبراهيم الماس ومحمد مرشد ناجي وأبو بكر سالم ومحمد حمود الحارثي وفيصل علوي. أما من مطربي الخليج والجزيرة فنذكر محمد فارس ومحمد زويد وضاحي بن وليد وإبراهيم حبيب وعوض الدوخي وطلال مداح ومحمود حلواني ومحمد عبده. وقد غنى له محمد بن فارس البحريني أكثر من أربع وثلاثين أغنية حسب ما جاء في كتاب محمد العماري (محمد بن فارس؛ أشهر من غنى الصوت في الخليج). ومع انعدام حقوق الملكية الفكرية تعرضت أغاني يحيى عمر لتشويه نصوصها، كما أدى تحريف الكلمات إلى نسبتها لغيره، وخير مثال على ذلك أغنيته الشهيرة التي غناها محمد مرشد ناجي (يحيى عمر قال يا طرفي لمه تسهر) فقد أداها محمد علي سندي مع تحريف المطلع: (يقول ابن جعدان يا طرفي لمه تسهر) ومن ثم نسبت إلى ابن جعدان! كما تعرضت أغنية: (يا مركب الهند يابو دقلين) إلى تعديل في كلماتها أبعدها كثيرا عن نصها الأصلي، وحولها بسبب شهرتها بين البحارة إلى فلكلور، كلٌّ يؤديه بحسب لهجته ويصمم الرقصة المصاحبة له. وبالمقابل فقد نُسبت كلمات أغان ليحيى عمر هو منها براء، مثل أغنية (يا بنات المكلا) التي غناها فهد بلان، فقد نسبها له الصحفي أحمد يسلم صالح، في مقالة له بصحيفة الأيام عنوانها (مقتطفات من أشعار وأغاني يحيى عمر). وغير هذا الصحفي كثير ممن قدموا معلومات غير صحيحة عنه، أو خلطوا بين أشعاره وأشعار غيره. وامتدت تخرصات الكتاب المتعجلين إلى مسقط رأسه وبلدته ونسبه، فنسبوه إلى حضرموت وإلى عُمان وإلى البحرين، لكنه لم يترك للشك منفذا، فقد وثق ذلك كله في أشعاره، فتبين أن اسمه يحيى عمر، وكنيته (أبو معجب)، وأصله من اليمن، وقد بيّن في أحد أبياته محلته من اليمن حين قال: وانتي سألتيني مسولة عزيزة أنا الأصل من يافع وساكن في الطشوش وحدد بدقة أكثر حين قال: فقلت من يافع بني مالك مجلين الكرب يحيى عمر اسمي مُولَّع ضعت في بحر العُبب وبقي أن نعرف هل هو من يافع الجبل أم يافع حضرموت، وإلى أي بطون حمير ينتمي؟ وقد تبين لمؤلف الكتاب بعد البحث أن مسقط رأسه (بيت الجمالي) ذراع كبانة، في حيد المنيفي بمشألة يافع. واستشهد بقوله: يارب ســالك بمــن أركانــه أربــع والخامس الفرض موجوبة على الواحد تمحي ذنوب الجمالي وارزقه أربع أنــت الـــذي عالــم فــي نيــة الواحــد ثم يتحدث مؤلف الكتاب عن طفولته فيقول إنه ولد في حَيْد المنيفي ونشأ كأترابه، وفقد أمه مبكرا، فعاش في كنف زوجة أبيه التي كان عنفها لا يُحتمل، مما اضطره أن يترك البلاد إلى الهند، لكنه قبل أن يغادر خلَّد خالته في قصيدة سماها (الرحيل) قال فيها: يا آح من خالتي خلت فؤادي موجع يا ربنا نسألك تنزل لها موت أفجع وفي الهند أتقن لغتهم ونظم وغنى بها. ومزج في بعض قصائده بالعربية الكلمات الهندية. وتشهد فصائده على أنه انغمس في حياة اللهو فكانت له تجارب ومغامرات عاطفية، وظل مولعا بالمرأة حتى في شيخوخته. هاهو يقول: قال الفتى يحيى عمر قلبــي تولاه الطمـع لي بالعمر تسعين لــــــكن عاد قلبي ما قنع وخبرته بالنساء جعلته يعرف أن النساء ألوان، وأنه قادر على توجيه النصح للعاشقين وإرشادهم للون الأفضل. يقول: اتبع هوى البيض جملة واعشق الأخضر وساير السمر والأحمر كذاك خله الخــضــر دولــه وفيــهــم نفحــة العنبـر والبيض يســلوك للســمرة وللقيلة هــذا.. وهــذا.. وهــذا حـبهــم يســحــر يا من دخل في هواهم تيهوا عقله خلــوه يمشــي وهــو المســكيــن يتفكــر لما نــوى با يصــلي ضـيع القبلة وقد أكثر شاعرنا من الإعجاب بذوات العيون الحمر، وهو أمر يبدو غريبا لكنه معروف عند طائفة من الشعراء اليمنيين قديما، وقد أشار البردوني بأنه من علامات جمال المرأة. ومما حافظ عليه شاعرنا القيم الدينية والخلقية والاجتماعية، وغالبا ما يستهل قصائده بذكر الله ويختتمها بالصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم. ومع كثرة أسفاره وطول غربته لم ينس يافع، ولذلك عاد مرارا متجشما عناء الأسفار وأهوال البحار. ومن حنينه إلى بلاده نظم قصيدة (ليت الهند في يافع) التي تدل على استمتاعه بالعيش فيها، لكنه يتمنى الجمع بينهما في مكان واحد: بحبــى عمــر قــال ليت الهنــد في يافع أو ليتكم بارض يافع يا اهل هندستان ما كان انا شي من اهلي والوطن ضايع وان سبتكم قال لي ذا القلب عود الآن ويرى بعض الباحثين أنه استقر في آخر عمره في قرية (السحيل) في حضرموت، وتزوج وخلف ثلاثة أبناء رحلوا جميعا منها. لكن ما يصل إلى شبه اليقين أنه تجول في مناطق حضرموت المختلفة وأكثر من المرور بمنطقة تهامة وأنحائها، مثل اللُّحَيَّة ووازع والحُديدة والمَخا بدليل كثرة ما قال فيها. وأختتم هذه الجولة بقطعة من حكمته. يقول: اشــكي على الله لا تشــكي إلى مخلوق ما ينفعك آدمي لو كنت في خازوق يأتيك حكم القضاء لو كنت في صندوق والخير والشــر من مولاك مرسولا إذا قضى الله أمرا كان مفعولا