خطورة تشتّت الانتماء.!

لم يكن الانتماء القبلي مشكلة في يومٍ من الأيام؛ فهو في أصله امتداد طبيعي للذاكرة وجزء من تاريخ الناس وروابطهم. غير أن المشكلة تبدأ حين يتحول هذا الانتماء من رابطة اجتماعية طبيعية إلى معيار للتفضيل أو وسيلة للانتقاص من الآخرين. حينها تفقد القبيلة معناها الحقيقي، ويتحول شيء كان مصدر فخر هادئ إلى وقود يصنع الفرقة ويجعل الحديث باسم القبيلة يعلو على الحديث باسم الوطن. وفي هذا السياق جاء بيان النيابة العامة واضحاً وصريحاً، مؤكداً أن التعصّب القبلي بجميع صوره اعتداء على القيم المجتمعية، وممارسة تُضعف النسيج الوطني وتستحق المساءلة الجزائية. هذا البيان، في جوهره، ليس مجرد تحذير قانوني، بل معالجة مبكرة لظاهرة لا يجوز أن تتسع، وتذكير بأن قيمة الإنسان تُقاس بسلوكه وأخلاقه، لا بما يحمله اسمه من امتداد قبلي أو إرث اجتماعي. والتعصب القبلي لا ينشأ من الخارج، بل يبدأ من الداخل… من طريقة حديث الإنسان وتعامله، ومن تلك الحدود التي يصنعها دون وعي بين “نحن” و ”هم”. كلمة تُقال على سبيل المزاح، أو موقف يصدر بلا تقدير، قد يتحول مع الوقت إلى شرخ يعمّق المسافات بين فئات المجتمع. وما يفاقم هذا الأمر أن الكثير من ممارسات التعصب تأتي متنكرة في هيئة فخر أو مزاح، فتتسلل إلى تفاصيل الحياة دون أن يشعر صاحبها، بينما يلمس المجتمع آثارها بوضوح. وحماية المجتمع من هذا التعصب تبدأ من الوعي، لا من العقوبة وحدها. تبدأ حين يعرف الإنسان أن الانتماء للوطن لا يلغي انتماءه الصغير، لكنه يضعه في حجمه الطبيعي. وحين يفهم أن الأسماء والألقاب لا تُقيم مكانةً، وأن النسب مهما علا لا يصنع قيمة إذا غابت الأخلاق وضاع الفعل، وأن الإنسان لا يُعرف بما يرثه بل بما يقدمه للحياة ولمن حوله. ومثلما يشكل التعصب القبلي خطراً يُهدد التماسك، هناك أيضاً تعصبٌ آخر لا يقل ضرراً: التعصب الرياضي الذي تجاوز حدود التنافس الشريف وأصبح مساحة لإذكاء الخصومة بدلاً من تهذيب الروح. وللأسف، يسهم بعض الإعلاميين الرياضيين في تغذية هذا الاتجاه دون إدراك لعواقبه، فتتحول الرياضة - التي خُلقت للمتعة والتهذيب - إلى ساحة انقسام بين الجماهير، تشتعل فيها مشاعر الانتماء بطريقة تترك خلفها جدراناً اجتماعية غير مرئية. إن أخطر ما يواجه المجتمعات ليس الاختلاف، بل تحويل الاختلاف إلى صراع. وليس الانتماء، بل تحويل الانتماء إلى أداة تُفرّق أكثر مما تُقرّب. والوطن لا ينهض بقبيلة ولا بفريق، بل ينهض بالجميع حين يدرك كل فرد أن قيمته ليست فيما ينتمي إليه، بل في ما يضيفه إلى وطنه ومجتمعه، وما يعكسه سلوكه من مسؤولية ووعي. وحين يترسخ هذا الفهم، يصبح الانتماء قوة توحيد لا تشتت، وجسراً لا حاجزاً. يصبح الانتماء امتداداً للقيم، لا امتداداً للحدود. وحينها فقط تُصان وحدة الوطن، وتبقى روابطه أقوى من كل محاولات الشقاق. فكل انتماء لا يخدم هذه الوحدة… يتحول مع الوقت إلى خطرٍ يستحق الوقوف عنده.