السريحي الأكثر صفاءً وصدقًا.

في الذاكرة الثقافية، هناك وجوه لا تمر بل تستقر. وحين نذكر الدكتور سعيد السريحي فإننا لا نستدعي اسمًا من سجل النقد أو الصحافة أو الفكر، بل نستحضر حضورًا يسكن في كل عقل ووجدان وذاكرة جمعية. هو ذلك الوميض الذي ترك أثره فينا حتى صار جزءًا من وعينا، وصار حديثه وكتاباته ومواقفه خيوطًا من ضوء تربط الفكر بالإنسان، وتجمع الجمال بالمسؤولية. لم يكن سعيد السريحي يومًا عابرًا في المشهد، بل كان المشهد نفسه في لحظاته الأكثر صفاءً وصدقًا. كتب كما يتنفس، وتحدث كما يفكر، ومشى في دروب الثقافة بخفة من يعرف أن الفكرة لا تقال لتُبهر بل لتوقظ. كلماته لم تكن مرافعة عن رأي، بل محاولة دائمة لاكتشاف الإنسان في اللغة، والحرية في الفكر، والجمال في الصدق. هو في العقل كعلامة على الوعي، وفي القلب كيقين بالجمال، وفي الذاكرة كحكاية ضوء لا تخبو. كثيرون كتبوا عن الفكر، لكن قلة جعلوه حيًا كما فعل سعيد، جعلنا نرى أن النقد ليس حكمًا على النصوص، بل بحث عن الإنسان داخلها. وحين نقرأه، نشعر أننا لا نتتبع فكرة، بل نُصغي إلى ضميرٍ يتحدث. ورغم أنه الآن تحت الرعاية الإلهية، إلا أن حضوره بيننا لا يُقاس بالمسافة ولا بالمكان. هو معنا لأن في كل عقلٍ له ركنًا، وفي كل قلب له صدى، وفي كل حديث عن النبل والوعي ظل من ظلاله. كأن الضوء الذي حمله في حياته قرر أن يقيم بيننا، يذكرنا أن الفكر الجميل لا يُنسى، وأن الكلمة الصادقة لا تغيب. لقد خاض سعيد السريحي معارك فكرية كثيرة، واجه فيها الصخب بالهدوء، والادعاء باليقين، والخصومة بالمعنى. خرج منها أكثر صفاءً، كأن النار التي أحاطت بفكره كانت طريقًا إلى النور لا إلى الرماد. لم يكن يكتب ليُرضي، بل ليُضيء. ولم يكن يتحدث ليُقنع، بل ليحرك الساكن فينا نحو التساؤل. واليوم، ونحن نتابع محنته بقلوبٍ ممتلئة بالدعاء، ندرك أننا لا نقف على حدود الألم، بل أمام درس جديد من دروس هذا الإنسان أن الصمت أحيانًا أبلغ من القول، وأن الضعف لحظة كاشفة لقوة الروح، وأن النور حين يختبر ذاته، يزداد صفاءً. سيبقى سعيد السريحي فينا فكرةً تمشي على الأرض، وضميرًا يذكرنا أن الكلمة مسؤولية، وأن الجمال شكل من أشكال الإيمان. هو في النهاية ليس مجرد ناقد أو مفكر، بل حالة من الصفاء الفكري، تنعكس على كل من عرفه أو قرأه أو اقترب من إنسانيته. سلامٌ عليه وهو يواصل رحلته في رعاية الله، سلامٌ على فكره الذي لا يهدأ، وعلى حضوره الذي لا يغيب، وعلى ضوءٍ علمنا أن الثقافة ليست قولًا يُكتب، بل حياة تُعاش.