دفء الحكومة.. في زمن الجليد الرأسمالي.

العدالة ليست شعارًا، يُرفع في أوقات الطوارئ، ويطوى حين الرخاء، بل هي استحقاق دائم، حيث يقول “أفلاطون” الدولة العادلة هي التي يُؤدي فيها كل فرد دوره بما يخدم الصالح العام” وفي السياق المعاصر، يعني ذلك أن تؤمن الدولة الفرص المتكافئة في كافة الظروف. في كثير من الدول تواجه الحكومات تحديات كبيرة تفرضها ظروف العولمة، وتغوّل الشركات الكبرى، وهيمنة القطاع الخاص على مفاصل الحياة الاقتصادية. وإزاء هذه الصعوبات هناك من يدعو إلى تحجيم دور الدولة لصالح القطاع الخاص، لاعتقاده أن قوى السوق وحدها كافية لإعادة هندسة الأسواق. بينما آخرون يرون أن للحكومة دورًا، بل واجبًا لا يمكن التنازل عنه في حماية الطبقات المتوسطة والفقيرة من تقلبات السوق ونفوذ رأس المال المتراكم. في النظرية الاقتصادية الكلاسيكية، تُقَسَّم النظم الاقتصادية إلى ثلاثة أنماط رئيسة هي: الاقتصاد الحر “الرأسمالي” حيث تقود قوى السوق المتمثلة بالعرض والطلب النشاط الاقتصادي دون تدخل يُذكر من الدولة، ومن أبرز نماذجه الولايات المتحدة الأمريكية. والاقتصاد الموجه “الاشتراكي” الذي تتولى فيه الدولة بشكل كامل إدارة الموارد وتحديد أولويات الإنتاج والتوزيع. من أبرز أمثلته الاتحاد السوفيتي – سابقًا – وكوبا، وكوريا الشمالية. و”الاقتصاد المختلط” الذي يجمع بين آليات السوق وتدخل الدولة في قطاعات استراتيجية، ومن أبرز النماذج المعاصرة على هذا المسار دول الشمال الأوروبي (السويد والنرويج، وفنلندا)، والصين، والمملكة العربية السعودية. هذه النماذج ليست مجرد قوالب نظرية فحسب، بل هي انعكاسات لتصورات مختلفة حول العدالة الاقتصادية ودور الدولة في حماية المواطن الذي هو هدف التنمية ووسيلتها لمكافحة الاستغلال ومواجهة الاحتكار، حيث تُتْرَك قُوى السوق تعمل، لكن ضمن ضوابط صارمة من قبل الدولة تضمن العدالة الضريبية، والرعاية الاجتماعية، والتعليم والصحة المجانية، ما أدى إلى مجتمعات في هذه الدول أكثر تماسكًا وازدهارًا. القطاع الخاص ليس ضروريًا فحسب، بل هو قطاع بالغ الأهمية، حيث إنه مصدر الابتكار والمرونة وتوليد الوظائف. لكنه دون رقابة حكومية صارمة قد يتحول إلى وحشٍ كاسرٍ لا يُروّض. في المقابل، لا ينبغي أن تتشدد الحكومات فتتعطل دينامية الأسواق وحيويتها. لكل هذا وذاك فإن النموذج الأمثل هو بيئة الشراكة العادلة، حيث تسيطر الحكومة على القطاعات الاستراتيجية ذات المساس المباشر بحياة المواطن ومستقبله، وتفتح المجال للمنافسة في المجالات الأخرى، أمام القطاعين الخاص والتعاوني، وتُبقي بيدها أدوات التدخل عند الحاجة. في المملكة العربية السعودية تأسس “صندوق الاستثمارات العامة” كذراع مالية سيادية تسعى إلى تنويع الاقتصاد السعودي وتقليل الاعتماد على النفط. ويعد نموذجًا لعودة الدولة إلى مركز الفعل الاقتصادي. وقد توسّعت استثمارات “الصندوق” لتشمل (13) قطاعًا استراتيجيًا. حيث يمتلك اليوم أصولًا تقدر بنحو (3.47) تريليون ريال سعودي، وقد أسهم في خلق (1.1) فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة – محليًا وعالميا – ويرى أن “العائد الحقيقي للاستثمار هو العائد على الإنسان، وأن النجاح يقاس بالأثر الذي يتركه على الإنسان” كما تمسك الحكومة بزمام عدة قطاعات حيوية، ذات مساس مباشر بحياة المواطنين ورفاهيتهم، منها على سبيل المثال لا الحصر: النفط، والبتروكيماويات، والكهرباء، والمياه، والأغذية الاستراتيجية، والإسمنت، والنقل الجوي، والقطارات، والاتصالات، والبريد، والصناعات العسكرية، والبنوك. إن ما يجري في السعودية اليوم من إعادة تموضع للدولة في مركز النشاط الاقتصادي لا يتعارض مع مفاهيم التنمية الحديثة، بل ينسجم مع التجارب الدولية الناجحة التي تستند إلى اقتصاد ذكي مختلط، يكفل التوازن بين تمكين القطاع الخاص وممارسة الشراكة الحكومية الناضجة في السوق. وإن الدخول الحكومي المدروس بعناية تامة في السوق ليس من قبيل المتاجرةً، بل هو ضرورة وطنية لحماية العدالة الاقتصادية، خصوصًا في زمن العولمة والهيمنة الرقمية والشركات متعددة الجنسيات العابرة للحدود. حيث يرى الاقتصادي الأمريكي “جوزيف ستيغليتز” رئيس اقتصاديي البنك الدولي خلال الفترة 1997 – 2000م الحائز على جائزة نوبل للعلوم الاقتصادية “أن السوق لا يستطيع تصحيح ذاته دائمًا، بل هو بحاجة إلى يد حكومية تصححه عند الفشل” ويؤكد ذلك الواقع المعاش، ففي أوقات الأزمات – كما حدث في أزمة 2008 وفي “جائحة كوفيد 19” كانت الحكومات هي من أنقذت الاقتصادات، لا قوى السوق. وفي حالة تفاقم الاحتكار فإن السوق تفقد آلياتها الطبيعية في ضبط الأسعار وتوزيع الموارد. ويصبح رأس المال المتركز أداة لاستغلال المستهلك لا لخدمته. وهذا ما يجب أن تمنعه الحكومات، وألّا تغفو عينها عنه. كم هي الشعوب في أمس الحاجة لدفء الحكومات في زمن الجليد الرأسمالي، والتجربة السعودية، كما تتجسد في “صندوق الاستثمارات العامة” وفي القطاعات الهيكلية الأخرى، تمثل إيمانًا عميقًا بالدور الرشيد للدولة في إعادة هندسة الاقتصاد الوطني بما يحقق مصالح كافة شرائح المجتمع. وإذا أحسنّا التوازن، وأبقينا يد الدولة ممتدة في الميدان، وعينها يقظة على العدالة، فإننا لا ننجو من فوضى السوق فحسب، بل نبني نظامًا اقتصاديًا واجتماعيًا يُحتذى به، فإن أي ريال تحققه الحكومة يتحول أثره إلى رفاه المواطن بلا ريب.