كتاب أنيق عن رجل أنيق رشيق، وتسميته برجل دولة تسمية لا يستحقها أحد أكثر منه، الرجل الذي كان في ذهن رئاسة الوزراء مرشحا لأي منصب وزاري، ولم يتنقل أحد مثله بين الوزارات المهمة، ليخرج منها جميعا بسجل ناصع، وحين استعفى لظروفه الصحية عين مستشارا في الديوان الملكي ثم استعفى ثانية، وكان في ذهنه أن يكتب عن عمله مع الملك فهد رحمهما الله لكن الوقت لم يكن متاحا، ما عرضه هذا الكتاب من مراسلات الرجل وبواكير أشعاره يظهر أناقة أدبية لم يتح لها الظهور للعلن. خطر لي أن تعبير رجل دولة تعبير مأخوذ عن الأصل الإنجليزي ( statesman )، فتحولت إلى محرك البحث غوغل أسأل عما تعنيه كلمة رجل دولة، فوجدت لها تعاريف كلها تدور حول ما كتبه مازن ابن الشيخ في مقدمته في أن الهدف من هذا الكتاب كان بيان العمل الدؤوب والمتفاني في تحقيق أمانى قيادة الدولة ورغبات أبنائها. وهذه ميزات رجل الدولة فهو رجل منشغل بإنجاز المشروعات التي أسندت إليه بسبب كفاءته وصحيفته الحافلة بالإنجازات، في بعض التعريفات يقال إن رجل الدولة هو نفسه رجل السياسة (politician) ولكن أحد المواقع قال إن رجل الدولة عكس رجل السياسة، لأن رجل السياسة ينشغل بالكلام والتصريحات تسويقا لبرامجه وخططه. ومعالي الشيخ العنقري كان عزوفا عن الكلام، ولكنه إن تكلم كان فصيحا بليغا. كتب أحد الصحفيين حين زاره في أول أيام وزارته للإعلام “ قابلت الوزير وليتني لم أقابله، وتساءلت لم عينوه وزيرا للإعلام؟ مكثت أحدثه نصف ساعة وهو يهز رأسه ويبتسم، وكدت أتضجر من صمته، وحين طلبت منه حوارا صحفيا اعتذر بلباقة الدبلوماسيين، فودعته شاعرا بالإحباط” ، ويكمل: إن الوزير قام من مقعده لوداعه حتى باب المكتب وهو تواضع أحسبه له، وعلق البعض: إن الوزير محق، كانت الأجواء العربية حساسة، وأي كلمة تصدر عن السعودية محسوبة عليها، وهناك الكثير ممن يحب الاصطياد في الماء العكر، وبخاصة الصحف الموظفة أيديولوجيا وحزبيا. ولد الشيخ في ثرمدا التى تتبع محافظة الوشم، توفي والده عندما كان في الثانية من العمر، تعاهدته والدته بالرعاية، وفي سن السابعة انتقل إلى الطائف، وبسبب صعوبة الظروف كانت دراسته متقطعة، فقد كان مضطرا للعمل في بعض الأوقات، فقد عمل كاتبا في مكتب الأمير عبدالله الفيصل، وصرحت أمه بأن خطه الجميل أهله لهذه الوظيفة. ثم التحق بمدرسة تحضير البعثات في مكة المكرمة، وهي مدرسة أعدت لتأهيل الطلاب للالتحاق بجامعة القاهرة، حيث لم تكن هناك جامعات، ولا مدارس ثانوية. وضمن برامج المدرسة كانت تستضيف أسبوعيا حلقة المسامرات، وقد كان إبراهيم سكرتيرا لهذا النشاط، الذي كان يحضره جمع من أدباء مكة يحاضرون ويتحدثون ويلقون الأشعار ويشهدون المسرحيات التى يمثل فيها طلاب المدرسة. وعندما ينتهي الطالب من الدراسة يتم إلحاقه بجامعة القاهرة، اختار الرجل كلية الآداب، قسم اللغة العربية، وعندما تستعرض زملاءه في هذه المدرسة والجامعة تجد أن أغلبهم أصبحوا وزراء أو فيما يعادل مرتبة الوزير. كانت القاهرة مكتبته الكبيرة، فجل وقته كان يصرفه في القراءة وكتابة هوامشه على ما يقرأ. وفي مذكرات الشيخ علي الطنطاوي أنه افتقد أعداد مجلة الرسالة وقد كان كاتبا فيها، وظن أن مقالاته قد ضاعت، لكن الشيخ إبراهيم أهداه أعداد مجلة الرسالة كاملة مجلدة! كانت الرسالة مجلة صفوة المثقفين، فلا غرابة من حرص معاليه عليها. أولى أعماله الإدارية كان في مكتب وزير المعارف عندما كان الأمير فهد وزيرا لها ، تلك الحقبة التي تم فيها بناء الجهاز الإداري للوزارة والتخطيط لإقامة المنشآت التعليمية وتوزيعها على أرجاء البلاد. زار الأمير (الملك) سلمان وزارة المعارف يوما، فوجد العنقري يتصبب عرقا، لم يكن مكتب الوزير مكيفا، وبعد. ساعة وصلت لمكتبه مروحة كهربائية هدية من الأمير. بعد سبع سنوات غادر الأمير فهد الوزارة فانتقل الشيخ العنقري ليصبح مديرا للمراسم في وزارة الخارجية، بناء على طلب وزير الخارجية إبراهيم السويل . ومن المواقف التي تُذكر عنه (العنقري) أنه وقد كان مسؤولا عن إجراء امتحان كفاءة لتعيين مدراء للإدارة ألغى الامتحان، فقد علم أن نتائج الامتحان كانت معروفة مسبقا، والوظائف محجوزة سلفا، لثلاثة من الموظفين السعوديين، أعاد العنقري الامتحان بأسئلة جديدة. حضر اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها السادسة عشر، وعمل مستشارا للسفارة السعودية في واشنطن، وهناك استكمل دراسته للغة الإنجليزية. وبعد عامين أصبح الأمير فهد وزيرا للداخلية فطلب العنقري ليصبح وكيلا للوزارة (١٣٨٢ه) . فرضت الظروف الداخلية والخارجية آنذاك الكثير من الحس الأمني للتصدي لمجموعة من مثيرات الفتن في الداخل . ومنها حدوث تفجيرات في الرياض، وكل تلك القضايا كانت تنتهي عند وكيل الوزارة، حيث فرز المعلومات وتنقيتها وتحليلها، ووضع الاستنتاجات، والرفع بالتوصيات. وكان للشيخ العنقري رؤيته في مواجهة التيارات الفكرية والتنظيمات السرية المعادية، فإن كان لا بد من معالجات أمنية حازمة إلا أنها يجب أن تترافق مع البحث في الأسباب الفكرية والاقتصادية والسياسية التى تقف خلف هذه الأفكار ومعالجتها، وفي خطاب منه للوزير ذكر “على اعتبار أن العقاب يمثل الجانب السلبي في خطة الحل، أما الجانب الإيجابي فيتمثل في استئصال الأسباب من جذورها لئلا تكون مدعاة لانحرافات جديدة”، “ نحتاج إلى إجراء دراسات فورية وواسعة - اجتماعية و نفسية وسياسية- لتحديد الأسباب والدوافع التي حملت هذه الفئات على الانحراف، وتعريض الأمن والوحدة الوطنية للخطر. “ وعندما تسلم حقيبة الإعلام تخوف أهل الإعلام والصحافة من تعيين شخصية ذات خلفية أمنية مثل العنقري على رأس وزارتها، وخافوا من انتقال الهاجس الأمني من الداخلية إلى الإعلام، لكنهم - كما ذكر الأستاذان عبد العزيز السالم، ومحمد الشدي - فوجئوا بأن نهجه كان نهجا إصلاحيا، فكان حازما في غير عنف، متواضعا في غير ضعف، بل وألغى الرقابة على الصحف فصارت رقابة ذاتية. وخلال عهده أُسست إذاعة القرآن الكريم ووكالة الأنباء السعودية ومنظمة إذاعات الدول الإسلامية، التي تهدف إلى : نشر الدعوة الإسلامية، وإبراز أهمية التراث الإسلامي، والعمل على نشر اللغة العربية لغير الناطقين بها… . إلخ، و لعل هذه المنظمة باقية على فعالياتها وإنجازاتها كما كانت أيام الشيخ العنقري. كان حريصا على المتابعة الميدانية للعمل الإعلامي وخاصة نشرات الأخبار، ويعطي توجيهاته مباشرة بشأنها، إضافة إلى تصحيح الأخطاء اللغوية. وكان يطلب من مرافقيه ومعاونيه ورؤساء تحرير الصحف ألا تُنشر عنه أخبارٌ شخصية تتعلق بأعماله إلا في حالة ترؤسه وفداً في مهمة خارجية. وفي أول وزارة شكلت في عهد الملك خالد تولى حقيبة العمل والشئون الاجتماعية، وأنشئت في عهده المؤسسة العامة للتعليم الفني، ووكالة الوزارة للرعاية الاجتماعية التي تشرف على مؤسسات تأهيل ذوي الاحتياجات الخاصة وعلى الجمعيات الخيرية ودور الحضانة، وتوجهت الكثير من برامج الوزارة لتأهيل النساء تعليميا وعلميا، واقتصاديا. وبعد ثماني سنوات انتقل وزيرا للشئون البلدية والقروية، وقد ركز على بناء وتنمية الإنسان والمكان، وعمل على إيجاد توازن بين المدينة و القرية والريف، بحيث تسير التنمية في خط متوازن، للحد من الهجرة من الريف إلى المدينة، بتوفير البنى التحتية الداعمة للحياة في الريف والقرى، وحيث إنه كان يعتبر أن اللامركزية سبب مهم ورئيس من أسباب النجاح فقد أعطى مسؤولي الإدارات المحلية والبلديات صلاحيات واسعة وكافية لاتخاذ قراراتهم دون الرجوع إليه في كل صغيرة وكبيرة. وسعى لأن تكون الحلول لمشكلات التنمية محلية المنشأ، حتى يضمن تجاوب المواطنين معها. وقد كُلف بترؤس لجنة تعنى بدراسة احتياجات الحرمين الشريفين من توسعة وتحسينات، ورغم جهوده البارزة في هذا الشأن لكنه كان حريصا على عدم الإفصاح عنها فقد كان يعده عملا لا يبتغي منه إلا الأجر والثواب من الله ، وكذلك عمل على إنشاء المعهد العربي لإنماء المدن في الرياض ليكون مؤسسة علمية استشارية متخصصة تهتم بشؤون المدن العربية، فتقوم بإجراء الدراسات وتقديم الاستشارات وتأهيل الكوادر الفنية. وبعد سبع سنوات استعفى من العمل فعُين مستشارا بالديوان الملكي، وهي وظيفة حساسة استمر فيها ستة عشر عاما حتى قُبلت استقالته. ومن أهم أعماله خلالها رئاسة اللجان المشتركة لمعالجة المشاكل الحدودية مع دول الجوار. ومثل كثير من البشر، انشغاله بالأعمال صرفه عن تذكر بعض ديونه ولكنه تذكرها فيما بعد، منها دين للأمير (الملك) سلمان بعشرة آلاف ريال وجده مثبتا في ورقة من أرشيفه فسدده بعد ثلاثين عاما، وكذلك وجد في ذمته ٤٠٠ جنيه مصري دينا لزميله ناصر المنقور فسدده بعد أن قدر أن قيمته في سنة السداد بلغت خمسة آلاف ريال. كما تكفل بترميم المسجد التاريخي في موسكو، وشارك ثلاثة من زملائه في شراء أرض تكون مقبرة للمسلمين في جنوب إسبانيا، وأسس مركزا صحيا في بلدته ثرمدا، وأسس عدة مساجد في ثرمدا ومكة والطائف والقاهرة وإندونيسيا. يقول زميله عبد العزيز السالم ضمن مقال طويل “ كان ودودا شفيفا كريما مرهف الإحساس، مسلما حقا في خلقه وعقيدته وسلوكه، وكان يحذر في معاملته مع الغير جرح مشاعرهم أو كرامتهم أو النيل منهم، كان يتألم عندما يشاهد في التلفاز صور الشهداء والجرحى من أبناء الشعب الفلسطيني وما وصلت إليه الأمة من ضعف وهوان ومحن وكوارث، وكان بنظرته التفاؤلية يأمل بأن يصل الشعب الفلسطيني لتأسيس دولته وعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين إلى ديارهم وأرزاقهم، لم تغره المناصب بالتسلط، كما تغلب عليه اللمسة الإنسانية” رحم الله الشيخ العنقري ورفيقة الشيخ السالم.