النزاهة .. ضمير الدولة.

في أزمنةٍ يشتد فيها الصخب و تُقاس فيها الإنجازات بأرقامٍ و مؤشرات، تبقى النزاهة أكثر المفاهيم هدوءاً و عمقاً. إنها ليست قانوناً يُسنّ، بل وعيٌ يُستيقظ. ليست فقط رقيباً على المال، بل ميزاناً على النفس .. فالدولة التي تعرف كيف تُحارب الفساد لا تحمي مالها فقط، بل تصون جوهرها. الفساد ليس مجرد سرقةٍ أو تلاعبٍ بإجراء، بل هو اختلالٌ في المنظومة الأخلاقية التي تربط الإنسان بمكانه و دوره. حين تضعف النزاهة، يتسرب العطب من داخل المؤسسة قبل أن يصيبها من خارجها، و يتحول العمل العام من رسالةٍ إلى وسيلة، و من أمانةٍ إلى غنيمة. و لذلك، فإن مكافحة الفساد ليست حرباً على الأشخاص، بل على فكرةٍ مدمّرة .. فكرة أن المصلحة تسبق المبدأ. في المملكة العربية السعودية، أدركت القيادة الرشيدة أن النهضة لا تُقاس بما يُبنى فوق الأرض، بل بما يُطهر في النفوس. فحين أعلن سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان أن لا أحد فوق القانون، كان يعلن في العمق ميلاد ثقافة جديدة، تعيد تعريف العلاقة بين القوة و العدالة. لم تعد النزاهة شعاراً رقابياً، بل أصبحت جزءًا من الهوية الوطنية، من “الوعي السعودي” الذي يرى في الأمانة شكلًا من أشكال الولاء للوطن. لقد جاءت هيئة الرقابة و مكافحة الفساد - “نزاهة” - لتترجم هذا الوعي المؤسسي إلى فعل. لم تُنشأ لتكون شرطياً بعد الجريمة، بل لتكون حارساً للوعي قبلها. مهمتها لا تنحصر في التحقيق، بل في الوقاية .. لا في العقاب فقط، بل في بناء مناعةٍ أخلاقية تحصّن الأفراد من السقوط. إنها تعمل بصمتٍ يشبه صوت الضمير، لا يُرى و لكنه يُشعر. حين تُصبح النزاهة قيمةً مجتمعية، فإنها تغيّر شكل العلاقة بين المواطن و مؤسسته. يصبح التبليغ عن الخطأ عملاً وطنياً لا و شاية، و تتحول الرقابة إلى مشاركة، و يستعيد الفرد إحساسه بأن ماله العام ليس مال أحدٍ غيره. الفساد يخلق مسافة بين الناس و دولتهم، و النزاهة تُعيد الجسور. إنها ليست فقط صرامة قانونية، بل عدالة تمنح الناس الطمأنينة بأن النظام يحميهم لا يخيفهم، و أن العدالة لا تُشترى و لا تُباع، بل تُمارس كواجبٍ مقدس. من يتأمل الفساد يدرك أنه ليس جريمةً ضد المال فقط، بل ضد الزمن. فكل مالٍ يُهدر هو مستقبلٌ يُسرق. و كل منصبٍ يُستغل هو فرصةٌ تضيع على الأكفأ. لهذا فإن النزاهة ليست فعلاً إدارياً، بل وفاءٌ للمستقبل، للأبناء الذين سيحملون إرث هذا الوطن. من هنا نفهم أن رؤية 2030 لم تكن فقط رؤيةً اقتصادية، بل أخلاقية أيضاً. فهي لم تضع النزاهة كأداةٍ للردع، بل كمنهجٍ للإصلاح، يوازي البناء المادي ببناءٍ روحي يقوم على المسؤولية و الصدق و الشفافية. النزاهة في معناها الفلسفي هي أن تملك الشجاعة لتقول “لا” حين يسهُل “نعم”.. هي أن تضع المبدأ في مواجهة الإغراء، و الحق في مواجهة المصلحة. و الدولة التي تُؤسس لثقافة النزاهة تزرع في مؤسساتها هذا النوع من الشجاعة: شجاعة أن تُحاسب نفسها قبل أن يُحاسبها غيرها. و لذلك لم تكن نزاهة مشروعاً منفصلاً، بل جزءاً من البنية العميقة لرؤية الدولة الحديثة، التي ترى أن العدالة هي أقوى أدوات الأمن، و أن الشفافية هي أكثر أشكال القوة استقراراً. حين تُكافح الدولة الفساد، فهي لا تطارد المفسدين فقط، بل تدافع عن صورتها في ضمير مواطنيها. فالمال يمكن استعادته، لكن الثقة إذا ضاعت يصعب ترميمها. ومن هنا تأتي عظمة الجهود التي تبذلها نزاهة و سائر المؤسسات الرقابية .. إنها تحمي المعنى الذي يقوم عليه الوطن معنى العدالة، و الاحترام، و المسؤولية. في النهاية، النزاهة ليست شعاراً نرفعه حين نُراقب، بل سلوكاً نعيشه حين لا يرانا أحد. هي ضوءٌ داخليّ في كل موظفٍ و مسؤولٍ و مواطن، يذكّره أن الأمانة ليست عبئاً، بل شرفاً، و أن الدولة التي تُبنى على الصدق لا تحتاج إلى تبريرٍ لعدالتها، لأنها تُقنع بالفعل لا بالكلام. تلك هي المملكة اليوم .. وطنٌ لا يكتفي أن يكون قوياً في الإنجاز، بل نقياً في الضمير.