معنى أن تكون رئيس التحرير.
تسمية الصحافة “بصاحبة الجلالة” تسمية قديمة قِدَم الصحافة نفسها، إذ لطالما تفاخر الصحافيون في كثير من بقاع العالم بكونهم يعملون في “بلاط صاحبة الجلالة”؛ كنايةً عن مدى قوّة وتأثير مِهنتهم في الناس والأحداث السياسية والاجتماعية. وهذا ما نتج عنه تسمية وسائل الإعلام، وخاصّةً الصحافة، “بالسٌّلطة الرابعة”، لدورها في مُراقبة السُّلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، وذلك حينما قال المؤرّخ البريطاني “توماس ماكولاي”، المتوفّى عام 1859: “إن المقصورة التي يجلس فيها الصحافيون بمجلس العموم البريطاني، أصبحت السُّلطة الرابعة في المملكة المتّحدة”. وربما طاب لمن كان بعيداً عن شؤون الصحافة وشجونها أن يسخر من وصفها بأنها “مهنة البحث عن المتاعب”، وقال في نفسه: “ليت من وصَف الصحافة بذلك يُجرّب زفرةً واحدة من زفرات العُمّال في الوُرش، أو الفلّاحين تحت الشمس في الحقول، أو المُستخدَمين بين ضجيج آلات المصانع”! ولكنها في الحقيقة كذلك؛ من مُعاناة المُراسلين الميدانيين من صعوبات ومخاطر قد تودي بحياتهم في ساحات الحروب وخطوط النار، أو متاعب الركض وراء المعلومات الصحيحة، واللّهاث خلف المسؤولين وأصحاب القرار. وكذلك فإن قليلاً من الناس من ينظر إلى الصحيفة أو المجلّة على أنها ثمرة أعمال مُضنية وجهود مُرهقة يبذلها العاملون؛ وهُم بين جامعٍ للأخبار من هُنا وهناك، ومُستقبِل للمقالات والتقارير من شتّى المصادر ووكالات الأنباء، وفاحصٍ وكاتب ومُراجع ومُصحّح لهذه المواد إعداداً لنشرها، ثم ناظرٍ لاختيار الصالح منها للنشر؛ بشرط أن يكون موافقاً لسياسة الصحيفة من ناحية ولرغبات القُرّاء من ناحية أُخرى. وعلى رأس هذا العمل الصحفي يقف رئيس التحرير بمسؤولياته الجِسام، فهو الذي يتحمّل الضّغط واللّوم والعتب والحساب، وفي أحيانٍ نادرة: التّهنئة والتبريك.. ليس لما حقّقته صحيفته من نجاح، وإنما لما توفّر له من أعصابِ مكّنته من مواجهة كلّ تلك المهامّ، وحافظ رغم كلّ ذلك على صداقة الجميع! كتب “د. هاشم عبده هاشم”، رئيس تحرير صحيفة “عُكاظ” الأسبق مقالاً بعنوان: “هُموم الصحافة المٌمتعة”، قال فيه: “أن تكون رئيس تحرير صحيفة، فإن ذلك أمرٌ بالغ الصعوبة، ذلك أن القاريء يُريدك معه، والكاتب يُريدك له، والمسؤول يُطالبك بالإلمام بوِجهة نظره قبل النشر، والمُحرّر يتطلّع إلى النشر الفوري لِما يُنتج ويكتب، والمُعلِن يفترض حاجتك له، والوقت يُحاصرك بمواعيد الصدور الدقيقة، بصرف النظر عن الاعتبارات الخاصّة والمِهنية. وفي النهاية فإن المطلوب هو أن تُرضي هؤلاء جميعاً.. أن تقول “نعم” لكلّ هؤلاء، وأن تتحوّل إلى “كمبيوتر” دقيق لا يُخطيء الحساب، ولا يتصرّف إلا في ضوء ما يُطلب منه أو يُعطى له. ومع كلّ هذا فأنت مُطالَبٌ بإصدار صحيفةٍ ناجحة، يقرأها كلّ الناس، ويثقون بها، ويسألون عنها”. وكتب “د. فهد العُرابي الحارثي”، رئيس تحرير مجلّة “اليمامة” الأسبق مقالاً بعنوان: “جَرّب أن تكون رئيس تحرير”، قال فيه: “بدءاً، لا بدّ أن نعترف نحن رؤساء التحرير، بأننا بشرٌ من لحمٍ ودمّ، وأن لنا مشاعرنا وأحاسيسنا التي أوجدها الله فينا كما أوجدها في غيرنا، فنحن نفرح ونحزن، ونقلق ونخاف، مثلنا مثل أيّ “مواطن” آخر ليس برئيس تحرير. كما نعترف أيضاً بأننا نُمارس مثل الآخرين مسؤولياتنا الاجتماعية الاعتيادية اليومية، فلنا أصدقاء، ولنا أهلٌ وأقارب، ولنا أطفالٌ كالطيور الصغيرة البيضاء! الشيء الوحيد الذي نختلف فيه عن غيرنا من “المواطنين” الآخرين هو أننا، لحُسن الحظّ أو لسوئه، جرّبنا عمل “رئيس التحرير”.. ولا شكّ أنه عملٌ له بريق، وله لمعان، وله صوتٌ يُدوّي في بعض الأحيان، فصُوَرنا – كما تُلاحظون – تُنشر كلّ يوم “تقريباً” ولله الحمد! نحن نعرف كلّ ذلك جيّداً. وأنتم تعرفونه أيضاً. إن عمل رئيس التحرير البرّاق اللمّاع هذا له مواجعه وله مُنغّصاته، فنحن عندما نبدو في صُوَرنا ضاحكين أحياناً فذلك لا يعني أننا نضحك بالفعل، فقد نكون في طريق التّهيؤ للبكاء! إن هذا العمل يستند إلى منهجية بسيطة ومُعقّدة في آنٍ واحد، وهي “الاجتهاد بالرأي”، والآلاف الذين يطّلعون على عمل رئيس التحرير وإنتاجه لم يُساوهم الله عزّ وجلّ في الفهم والاستيعاب، ولم يهبُهم مستوىً واحد في المُقارنة والاستقراء، ولذا فهُم يختلفون أحياناً فيما بين أيديهم مما تقدّمه الصحيفة مُعتقدةً، هي ورئيس تحريرها على الأقل، بأنه “دَسِمٌ ومُفيد”. هكذا يتواصل إيقاع حياة رئيس التحرير، أو هكذا يكون عمله اليومي الدائم؛ يجتهد، والناس أيضاً يجتهدون، والمسافة بين النُّقطتين تكون ضيّقةً أحياناً، وتكون واسعة وسحيقة في أحايين كثيرة أُخرى..”.