إنسان جازان والشعر.
عن الشعر والشاعر, قلتُ ذات أمسية شعريّة: أما الشعر فهو متحف الحياة المفتوح على الدوام, ترتاده قلوب الناس وأفئدتهم وألبابهم على السواء, ومنذ كان الشعر كان الشاعر, ذلك الإنسان الواقف على عتبة الوجود, قدمٌ في جنّة الخيال وأخرى في جحيم الواقع, وكلما أوجعه ضجيج العابرين, استدار ضلعًا فضلعًا نحو مرايا ذاته, يذرف الشعر كقديس مضرّج بانكساراته أمام صلف الواقع, يحاول أن يبتكر للطين مزاجًا, يكون بطعم بسملات الأمهات, حتى لا تخدش دمعةٌ كرستالها, أو تبيت أغنية خلف القضبان. لكن ما سرّ انحياز إنسان جازان للشعر, لهذا الكائن السحري, المتخلّق من مخيّلة العدم, حتى باتت كما يُقال لا تتنفّس إلا شعرًا؟ سؤالٌ كهذا, كان قد فاجأني به الدكتور أحمد التيهاني قبل عشر سنوات, عندما كنتُ ضيفه في لقاء تلفزيوني مباشر, عبر “ برنامج المنتدى” على القناة الثقافية في أبها. ورغم أنني أسمع دائمًا عن هذه العلاقة الوطيدة بين جازان والشعر, إلا أنّ السؤال عن سرّ هذه العلاقة, عن أسبابها, كان مفاجئًا لي. أذكر أنني ارتبكتُ يومها, فرحتُ أعلل بطبيعة المنطقة الشاعريّة, كونها تجمع بين السهل والجبل والبحر, ومن ثم أعلّل بارتباط الجازاني بطبيعة أرضه الفاتنة, فأصبح لا يحتمل البعد عنها, ويحنّ إليها. فقال لي: ما من إنسان إلا وهو شديد الارتباط بأرضه, وإذا ابتعد عنها يحنُّ إليها. فعدتُ من جديد أردّ سرّ هذه العلاقة بيننا والشعر إلى ما نتّكئ عليه في المنطقة من موروث شعريّ هائل, وسعدتُ عندما رأيته قد اقتنع وقبل مني هذه الإجابة. والحقيقة أنني ما زلت إلى اليوم أسأل نفسي هذا السؤال, ولستُ على قناعة بما كنتُ قد قلته في اللقاء. فلا الطبيعة في نظري ولا ضخامة الموروث الشعري, بإمكانها أن تخلق شعراء. قبل الشروع في البحث مجددًا عن الأسباب أو عن سرّ انحيازنا للشعر, أودّ الاعتراف أو التسليم سلفًا, بأنّ لدينا في المنطقة أعدادًا هائلة من الشعراء, غير أنّ الشعر الحقيقي قليل جدًا, والقصائد التي قد تُعد من عيون الشعر تكاد تكون نادرةً ندرة الأحجار الكريمة في جبالنا. وقد تجد شاعرًا حصد العديد من الجوائز, وصدر له العديد من الدواوين, غير أنّه لا أحد يتذكر له قصيدة واحدة أو حتى بيتًا واحدًا. وليس هذا موضوعي. أذكر أنّ جامعة أم القرى نظمت عام 1407هـ أمسية شعرية لأربعة شعراء من طلابها, وفوجئ الحضور بأنّ ثلاثة شعراء كانوا من جازان والرابع من مكة, ولا أكتم سعادتي أن كنتُ أحد هؤلاء الثلاثة, الشاهد هو استئثار جازان بهذا العدد دون غيرها من المناطق, فقط على مستوى جامعة, وبعيدة عن جازان. سأحاول التعليل لعدم اقتناعي بإجابتي في اللقاء.. لا خلاف على أنّ الطبيعة الجغرافية, قد تكون عاملًا مساعدًا على قول الشعر, بيد أنها لا تصنع شعراء مهما كان جمالها. لم يبق إذًا سوى الموروث الشعري الذي يتكئ عليه أبناء جازان, وسأحاول استعراض القديم منه تاريخيًّا. عندما كانت المنطقة تسمى المخلاف السليماني, كانت بعيدة عن عواصم القرار في العصور الإسلامية الأولى, ولذلك غاب شعراؤها عن التدوين الذي حضي به نظراؤهم في الحجاز والشام والعراق ومصر, وعلى امتداد القرون الإسلامية الأربعة الأولى, لم تحتفظ لنا المصادر باسم أيّ شاعر من المنطقة مطلقًا, ويكاد يُجمِع مؤرخو الأدب على أنّ أقدم من حملتهم إلينا المصادر هو أبو الحسن التهامي في القرن الخامس الهجري, ثم عمارة الحكمي في القرن السادس الهجري, ثم يأتي ابن هتيمل الضمدي وآخرون في القرن السابع الهجري, ثم الجراح بن شاجر الذروي وآخرون في القرن العاشر. وهؤلاء جميعهم لم يطلع على سيرهم وأشعارهم سوى نخبة من الباحثين والمهتمين, وبالتالي أستبعد أن يكون لهم أيّ دور في انحياز أبناء المنطقة للشعر. وإذا كان لشعراء المنطقة السالفين من دور يُذكر في هذا الجانب, فلن يكون إلا للشعراء المعاصرين, بداية من القرن الرابع عشر في العهد السعودي الميمون, الذي هيأ مناخًا عظيمًا للأدب والصحافة وللمعارف عمومًا. لكن نِعم وخيرات العهد السعودي شملت كافّة مناطق المملكة, ولم تمرع أرض أيّ منها بالشعر كما فعلت جازان.. وبناءً عليه, سأجتهد وأعلل لذلك بعدة أمور تبدو لي منطقيّة والله أعلم: أولا : أبناء جازان, وبشهادة كل الجامعات التي كانوا يسافرون إليها, كانوا على قدر عالٍ من الذكاء والتميّز في كافّة المجالات, وما الشعر إلا واحد من هذه المجالات. فلعل صفاء أذهانهم كان أحد هذه الأسباب. ثانيًا : أبناء جازان لا ينتمون إلى عائلات ثريّة حتى تنشغل عقولهم بالشركات والمصانع والعقارات والرحلات لأوروبا والجزر البعيدة, وحدها الكتب كانت متنفّسهم الوحيد, والشعر متعتهم الميسّرة والمتاحة كونها في المتناول, مثلما الناي الآلة الموسيقية الوحيدة التي هي في متناول الراعي. ثالث : أجدادنا القريبون, لم يكونوا رُحّلًا, فصادف أن ولدنا في بيئات مستقرة, وأيضًا بعيدة عن التشدد الديني, وتكاد تكون بيئات فروسيّة وحكايات وأنس وسمر, فكانت محفّزة وباعثة على قول الشعر, ففتحنا أعيننا على شعراء وأذاننا على شعر, فرضعه بعضنا مع حليب الأمهات, سيّما وبعض الشعراء كانوا من الفقهاء والمتعلمين, وعلى مقربة منهم في اليمن, كان القضاة هم كتاب الأغاني الصنعانيّة. وسواء كان ما قلته صوابًا أو مجانبًا للصواب, فما أنا سوى مجتهد وقد اجتهدتُ رأيي, ولكلٍ الحق في اجتهاد رأيه.. المهم نقف في النهاية على إجابة, تكشف لنا سرّ هذه العلاقة بين جازان والشعر.