مع البحر في قرفصائه.

لم يجترح الشاعر العربي الكبير دخيل الخليفة عبارته الشعرية المدهشة عابثا بأذهان لا تجيد السباحة ولا تتقن الغرق بقدر ما أراد خلق بحره الخاص الذي يكنز زرقته في الأعين القادرة على الغرق سرَحانا والسباحة هذيانا. عابثا بالجمود الإبداعي متلاعبا بالهوس التقعيدي، محيلا لنسق احتمالي يحقق هوس المخيلة وشهوة الإحالة ورهافة الإلماح. المعترضون على هذه الصورة ومنهم أكاديميون وشعراء ومشتغلون افتراضيا بالنقد، اعترضوا لأنهم كلاسيكيون رومانسيون يحصرون الشعر في البعد الأقرب للمنطق والنسق الأدنى للبرهان بعيدا عن التخييل الخرافي والشطح الدلالي، عملية لجم للخيال وكبح جماح حصان اللغة عن القفز على حواجز الحيرة وهتك أستار البيان. أراعتهم الصورة أن بحرا بشحمه ولحمه يجلس القرفصاء. وعلى الرغم من وفرة الاحتمالات التأويلية لهذه العبارة الشعرية الرفيعة أسهب بعضهم في السخرية المنسوجة من رقاع الجهل المركب. إلا أن ممن يسلمون بأدلة السلف الشعري الصالح ويمارسون الاقتداء والاتباع في الإبداع من قصروا عن منهجهم نفسِه فلم يفطنوا لأساليب العرب وأصول تعابيرهم المجازية ولم يستذكروا أراشيف المباحات والمحرمات التعبيرية جيدا. على فرض أن الاتباع والإبداع في الشعر والفن لا يتناقضان تناقضا فاقعا. هات رأسك يا زمن؛ فقد استخدم العرب المجاز في تعبيراتهم اليومية، فقالوا ، قام الثمر، أقام الحكم، قام زيد بعمل كذا، جاء الصيف، انهزم الشتاء، قامت الشمس، أطلت الشمس، قعّد اللغة، اشتعل الرأس. أفعال القيام تلك هي مجرد مجاز وكنايات وليست قياما حقيقيا، وإعمال وصفٍ مكان وصفٍ مجازا. فقيام الثمر هو نضجه، وقيام الحكم هو استتبابه، قام زيد بعمل كذا أي بدأ العمل، جاء الصيف المجيئ هو الابتداء، قامت الشمس: قيامها انتصافها، انهزام الشتاء انتهاؤه، إطلالة الشمس إشعاعها، فلكل قيامه ومجيئه وانهزامه وإطلالته المختلفة التي توافق كيفيته المشتقة من صفاته وأحواله. لك بالمقابل أن تعتبر للبحر قياما وقعودا خاصا بالبحر، لك أن تعتبر المد قيام البحر، والجزر قعوده مثلا، لك أن تعتبر الطوفان والتسونامي قياما ثم سيرا للبحر، كما تقول سارت الرحلة وسارت المحاضرة، وكل مسير مختلف يناسب الفاعل، وكذا لي كشاعر أن أعتبر الإعصار رقصا بحريا مع السماء، والعاصفة سياحة أخوية بين البحر والرياح. وعلى ذلك يمكنك القول «بحر يجلس القرفصاء» بنسبة ذاتية للبحر مئة بالمئة، يجلس البحر أو يقعد أو يسير أو يسافر أو يموت أو يشرب أو يرقص بأسلوبه الخاص. وذلك احتمال آخر للمعنى بخلاف توليد المعنى من استعارة البحر لرجل واسع العلم يجلس القرفصاء. الحالة الصحية للشعر، أن لا يحتاج الشاعر لدليل من قول العرب يشتق منه إبداعه، أو يسبقه الممارس الأول للتعبير وأن لا ينتظر شيوعا مما استخدمته العرب ليجيز له إبداعه الشعري، الشاعر يقود، الشاعر هو السابق في ماراثون المجاز، الشعراء الحقيقيون ليسو إمعات في تراكيبهم. للشاعر أن يبتكر الألفاظ والمعاني بل ويخترعها بنفسه كما قال ابن رشيق القيرواني: «إنما سميّ الشاعر شاعرًا، لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره، فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى ولا اختراعه، أو استظراف لفظ وابتداعه، أو زيادة فيما أجحف فيه غيره من المعاني، أو نقص مما أطاله سواه من الألفاظ، أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر، كان اسم الشاعر عليه مجازا لا حقيقة، ولم يكن له إلا فضل الوزن، وليس بفضل عندي مع التقصير» العمدة في الشعر؛ ابن رشيق. دخيل الخليفة شاعر ينتمي لشجرة عائلة الشعراء الذين استظل بهم الإبداع ودانت لهم غابات المجاز ممن يمارسون خلق اللغة الشعرية المتفوقة على اللغة اللفظية والتعبيرات اليومية بين عامة الناس. فهل كان للمال صوت مبحوح أو ثغر به يشكو ويصيح قبل قول أبي نؤاس: بح صوت المال مما منك يشكو ويصيحُ وهل كان للمال مشاعر تحثه أن يتظلم قبل قول مسلم بن الوليد: تظلم المال والأعداء من يده لا زال للمال والأعداء ظلاما وهل كان للمال خد يتسافل قبل قول أبي تمام: بلوناك أما كعب عرضك في العلا فعال وأما خد مالك أسفلُ وهل كان للموت رجل تلبس نعلين، وهل كان الخد يصبح نعلين قبل أن يقول بشار بن برد: وجذت رقاب الوصل أسياف هجرنا وقدت لرجل البين نعلين من خدي هكذا يصنع الشعراء عوالم اللغة الموازية ويقودون دفة المجاز ويخترعون الاستخدامات الجديدة والمعاني المختلفة عن سابقتها، بل ينتجون ألفاظا لسياقات مبتكرة وأحوال تأويلية غير متداولة.