في كتاب الحفلة لعبدالله ثابت ..

حين تتحوّل كرة القدم إلى فنّ مجازيّ!

في زمن يفيض بالضجيج الرياضي، يأتي عبدالله ثابت ليكتب عن كرة القدم كما لم يكتب عنها أحد من قبل. لا بوصفها مباراة تنتهي بصافرة، بل حفلة تمتد في الذاكرة واللغة والخيال. في كتابه الجديد “الحفلة” الصادر عن دار تشكيل (2025)، يخلط ثابت بين حرارة الملاعب وبرودة التأمل، ليقدّم نصاً يعيد للرياضة معناها الثقافي والإنساني، ويمنح الجمهور دور البطولة في مشهد أكبر من مجرد تسعين دقيقة. إحماء الذاكرة منذ الصفحة الأولى، يسأل الكاتب سؤالاً بسيطاً وعميقاً في آن:“لماذا نحب كرة القدم؟” ثم يمضي في محاولة للإجابة، لا بالأرقام أو التحليلات، بل بلغة تتقاطع فيها الفلسفة مع الشعر، والتاريخ مع الوجدان. يرى عبدالله ثابت أن كرة القدم ليست مجرد رياضة، بل هي آخر النماذج المتبقية لصراعات الجسد النبيلة قبل أن تستولي الشاشات والآلات والأسلحة على كل شيء. إنها الفعل الإنساني الذي يجمع بين الحركة والدهشة والانتماء. يمارس الكاتب في هذا الكتاب نوعاً من الكتابة “الاحتفالية”، التي تضع القارئ داخل اللعبة، لا على المدرجات. فالملاعب لديه ليست مستطيلات خضراء، بل مسارح مفتوحة لأحلام البشر وانكساراتهم، وأبطالها ليسوا لاعبين فقط، بل رموزاً للحرية والتعبير والخلود اللحظي. الأدب في الملعب يقسّم عبدالله ثابت كتابه إلى فصول تتناول عناصر اللعبة من زوايا غير مألوفة: الملعب، اللاعب، المدرب، الحكم، المعلّق، الجمهور. لكنه لا يكتبها بوصفها أدواراً، بل ككائنات لغوية تتحرك في نصٍّ مفتوح. فالمعلّق مثلاً ليس صوتاً على الشاشة، بل شاعرٌ يروي أسطورة في زمن مباشر، والحكم ليس سلطة (صفّارة)، بل رمزٌ للعدالة الممكنة والمستحيلة. أمّا الجمهور، فهو في نظره القلب النابض لكل شيء، “الجموع التي تصنع الحلم وتؤمن به حتى وهي تعرف أن النهاية قد تكون هزيمة”. إنه كتاب يكتب كرة القدم من داخل اللغة، حيث تتحوّل المباراة إلى قصيدة، والهتاف إلى استعارة، والهدف إلى حدث وجودي. بهذا المعنى، يصبح “الحفلة” امتداداً لتجربة عبدالله ثابت الأدبية، التي بدأت منذ روايته الشهيرة “الإرهابي 20”، ثم مضت عبر مجموعاته الشعرية ومقالاته التي تمزج الفكر بالحياة، والفردي بالجماعي. خاتمة المونديال في خطوة لافتة، يترك الكاتب في الصفحات الأربع الأخيرة من الكتاب مساحة بيضاء للقارئ كي يدوّن تجربته الخاصة مع اللعبة، كأنه يقول: “هذه الحفلة لا تكتمل من دونك”. إنها دعوةٌ إلى الكتابة الجماعية، وإلى أن يتحوّل القارئ من متلقٍّ إلى مشارك في صياغة المعنى. أمّا الخاتمة فتتّجه إلى المستقبل، حيث مونديال 2034 الذي ستستضيفه السعودية. هناك، يرى ثابت أن العالم سيشهد “حفلة سعودية كبرى”، لا للفرجة فقط، بل لاستعادة الدور الثقافي والإنساني في الرياضة. ما يميّز “الحفلة” أنه يقدّم نموذجاً نادراً في الأدب العربي، حيث تتجاور الثقافة والرياضة في نص واحد. فبدلاً من أن يختزل الحديث عن كرة القدم في سياق إعلامي أو انفعالي، يعيد عبدالله ثابت تأطيرها ضمن سياق معرفي وجمالي، يربط بين الفرد والمجتمع، بين الحلم الوطني والدهشة الإنسانية. يكتب بلغة تحتفي بالإيقاع كما تحتفي بالمعنى، ويصنع من كل جملة تمريرة، ومن كل فصل هدفاً لغوياً يحرّك فينا ما ظننّاه خامداً. لا يبحث عن بطل يتوج في النهاية، بل عن دهشة تستمرّ بعد صافرة الحكم. القيمة الحقيقية في هذا الكتاب أنه لا يحدّثك عن كرة القدم، بل عن نفسك وأنت تشاهدها. عن الطفل الذي بداخلك، وعن ذاكرة الجماعة التي تصرخ وتضحك وتبكي في المدرجات. يذكّرك بأنّ الهتاف شكل من أشكال الشعر، وأنّ اللعب فعل حياة لا يقلّ نبلاً عن الكتابة. حفلة لا تنتهي “الحفلة”ليست كتاباً يُقرأ مرّة، بل تجربةٌ تُعاش. كل فصل فيه يذكّرك أن الرياضة يمكن أن تكون فناً، وأن الأدب حين يلامسها لا يُفقدها بساطتها، بل يردّها إلى جوهرها الأصيل: اللعب بوصفه حرية، واحتفالاً، ووجوداً. وبين اللغة والملعب، ينجح عبدالله ثابت في صنع نص جديد، صوت سعوديّ معاصر، يُنصت إلى نبض الجمهور ويكتبه بشغف الأديب وإيقاع المشجع! (*) كاتب وصحافي سعودي