أثر الفراشة لا يُرى.
تعبير «أثر الفراشة» مأخوذ من ما يُعرف في علم الفوضى أو Chaos Theory، وهي فكرة تقول إن حدثًا صغيرًا جدًا قد يؤدي إلى نتائج كبيرة وغير متوقعة على المدى البعيد. صاغها العالم إدوارد لورنز عام 1961 أثناء دراسته لأنماط الطقس، حين لاحظ أن تغيّرًا طفيفًا في القيم المدخلة للنظام المناخي يؤدي إلى نتائج مختلفة تمامًا. ومن هنا انطلق سؤاله الشهير: هل يمكن لرفرفة جناح فراشة في البرازيل أن تُحدث إعصارًا في تكساس؟ ومن تلك اللحظة وُلد المصطلح كجزء من نظرية الفوضى، ليتحوّل من فكرة علمية إلى استعارة إنسانية تُلهمنا رؤية أعمق للعالم. لم أفهم يومها ما تعنيه هذه النظرية حقًا، إلى أن أدركت لاحقًا أن كل شيء — مهما بدا صغيرًا — يشارك في صناعة مصيرٍ ما. كل كيان في الكون، حتى الأضعف، يمسّ الآخر بطريقةٍ خفية، والعالم ليس صاخبًا فقط، بل مليءٌ بالذبذبات الدقيقة التي تُعيد تشكيل الحكاية من الداخل. عندها أيقنت أن الأثر لا يُقاس بحجمه، بل بامتداده، وأن رفرفة صغيرة في مكانٍ ما قد تغيّر مجرى حياةٍ كاملة في مكانٍ آخر. لا أحد يدرك أن لحظة واحدة، مجرد التفاتة، قد تفتح في داخله نافذة جديدة. فالحياة لا تحتاج إلى عواصف كي تتبدّل، أحيانًا يكفي جناح صغير يتحرك في الهواء، فيعيد ترتيب مسارات الريح. يسمّونه في العلم «أثر الفراشة»، لكننا نعيشه في تفاصيلنا اليومية، داخل سلسلة من رفرفاتٍ خفية لا نمنحها اسمًا: كلمة طيبة وسط عاصفةٍ هدأت من روع الآخر وزرعت في قلبه الطمأنينة. ابتسامة رقيقة في وجهٍ عابسٍ أعادته إلى بيته أخفّ. مساعدة عابر طريق، أو إصغاء لشخصٍ أنهكه الصمت، أو سماحة نفسٍ بثت طاقة مريحة دون أن تتكلم. حتى الدعاء لشخصٍ لا يعلم، هو أثر خفيّ لا يُقدّر بثمن، يخلق طاقة خير تتجاوز المسافات والحدود. ما زلت أذكر أولئك النادرين الذين غرسوا في داخلي غصنًا أخضر، ما زال ينبض بالحياة كل يوم، ويزهر كرمزٍ للجمال العابر والأثر رغم خفته. هم أولئك الذين يرحلون عن المشهد ويبقون في الذاكرة كهمسٍ ناعم، كظلّ فراشة عبرت القلب وتركته أكثر اتزانًا وامتلاءً بالضوء. ولهذا، ربما أشار نبي الهدى عليه الصلاة والسلام إلى هذا المعنى حين قال: «اتقوا النار ولو بشق تمرة» — فحتى نصف تمرة قادرة على أن تكون الفرق بين الجنة والنار. * الأثر الحقيقي لا يُرى، لكنه لا يزول. يبقى فينا، يتوالد في الآخرين، ويعيد إلى العالم شيئًا من اتزانه المفقود.