في ديوان «شرود مؤجل» للشاعر عبد المجيد الموسوي..

إعادةُ تشكيلِ العَالم .

ثمَّة مساحة واسعة في العالم لممارسة الكلام شعراً ونثراً، لكن أن تختار الشعر؛ إذن عليك الانصياعُ لقوانينه في المجاز والصياغة، وهذا ما يعيق التعبير الواضِح والخطابَ الكاشف عن المضمرات الداخليَّة والمعاني المتوارية، ومعها المشاعرُ المختبئة بين ثنايا الكلماتِ والعبارات، معادلةٌ سهلةٌ صعبةٌ يقاربها ديوان “شرود مؤجل” للشاعرِ عبد المجيد الموسوي، بينما يحاول إعادة تشكيلِ العالم، حيث المآسي تنتشرُ والأحزان تتَّسع والدمار يتضاعف، وليس هُناك من حلٍّ إلا اجتراح طريقةٍ جديدةٍ في مقاربته لعلَّه يعودُ إلى رشده (مدية عمياء): “طفَح الدَّمار وفاضَ بحر الداءِ وسماؤنا سحبٌ من الأرزاءِ الأرض تنزفُ من قساوةِ طعنةٍ بيد الظلامِ بمدِية عمياءِ” العالمُ الذي فقد رشده وغدا مراهقاً متمرداً يصعب الإمساكُ به وتوجيهه هو ما يضعه الشاعرُ في صلب تجرِبته، التي انقسمَت إلى قسمين؛ عاطفيَّة وجدانيَّة تحاكي الذَّات وتستدعي إبرازَ المشاعر والاتكاءَ عليها، وموضوعيَّة تأمُّلية تبحثُ في مآسي الوجودِ وأسباب الحزن ومحاولةِ إيجاد علاجٍ لها، وهو ما جعله يطرحُ رأيه نثراً، حيثُ الشعر عاجزٌ في التنظير: “كلُّ شيء كان يرتقبُ اللحظة التي سيرفعُ فيها الستار عن أوَّل رقصة سيؤديها الشعر؛ ليعلنَ للعالم المتخَم باليأس والخرابِ أنَّ الوقت حان لكنسِ كل ما تبقَّى من ألمٍ وجراحٍ على أرصفة القلوبِ التي أنهكَها البؤس”. هذا هو سؤالُ الديوان وما يطرحهُ في قصائده، إذ العالمُ الواسع بات غيرَ قابل للحياة بشكلِه الحالي، لذا لا بدَّ من إعادة تشكيله، وليسَ هناك أقدر من الشعرِ ليقوم بالمهمة المقدَّسة، فيعملَ على إصلاحِ العالم ومحو مآسيه وأحزانه وبثِّ روح المحبة والألفةِ بين أبنائه، لكونه “رجل السَّلام الأول الذي انتدبته جمهوريةُ الحب؛ كي يعلنَ خارطة الجمال الممتدَّة من الماء إلى الماء، بعد أن وأد اليأسُ آخر مظهرٍ من مظاهر الأملِ والحياة”. العلاجُ بالشعر! طريقةٌ ناجعة في مداواة ِالعالم وسكب الطمأنينةِ في أعماقه، ليس أيَّ شعر! فثمَّة شروط خاصَّة يجب توفرها؛ كي يتمكنَ من أداء مهمته المقدَّسة، أولها وأهمُّها أن يمتلئ بالحب، وهذا ما يدفعُ إلى تعريفِه وإعطائه أبعاداً تناسب ما ينتظرُه من مهام (الشعر): “الشعرُ ما الشعرُ؟ بحارٌ وزورقهُ وشاطئٌ جانِباه: الحبُّ والعبقُ” يختلطُ الحب والعبق، والبحارُ والزورق، ليغدو الجميع متمازجاً متداخلاً غير قابلٍ للانفصال، حيثُ الشاعر مملوءٌ بالحب والمشاعرِ، والزورق ممتلئٌ بالعبق والرائحةِ؛ ليظلَّ الشعرُ في حالة ارتحالٍ دائمٍ نحو الشواطئ برمالها وشمسها، إلى أن يغدو الامتزاجُ والتداخلُ سمة الكائنِ الإنساني؛ ما يدفع من جديدٍ لإعادة تعريف الشعرِ وتوسيعه (شاعر يقطف الدهشة من شجر المجاز): “الشعرُ من خمرِ الكلامِ فرشفةٌ في الروحِ نسكرُ في هواك؛ لننهلَك” لا يكتملُ تعريف الشعر إلا بحضورِ الشاعر، الذي يأتي مصاباً بالحيرةِ والاضطراب، إذ لا يهدأُ أمام العواصف ولا ينحني للمصاعِب، بل يواصل طريقَه في الكتابة وسبر أغوارِ القصيدة حتى يصلَ الشاطئ؛ لأنها الحبلُ الذي يمسك به والضوءُ الذي يلاحقُه (لعلي أمسك الضوء): “دنوتُ أحدِّق ثم انحنيتُ وأمسكتُ حبل القصيدة أملأُ دلواً من البوح أشربُ معنىً شفيفاً، شربتُ كثيراً ولكنني من لظىً ما ارتويتْ ورحتُ أمشِّط صحراء روحي وأطلقُ كل جيادي لأصطادَ معنىً أنيقاً ذهبتُ عميقاً أفكِّر أسبرُ بئر الكلام ورغم العنا ما اهتديتْ” الحيرةُ تزداد والاضطراب يتسع مداه، فالجسدُ الزورق والروح الشاعرةُ كلاهما لا يستقران في الرحلةِ على حال، بل يواصلان محاولاتهما لصياغةِ شعرية مختلفةٍ ومخاتلة، تسعى إلى سكبِ المحبة والطمأنينة في القلوب، لهذا يستمرُّ بالبحث “عن ومضة شاردة” لعلَّه يكتشفُ شيئاً جديداً، لكنه يتفاجأ من “سذاجة فكرتـ”ـه وبرودتها، فيصرخُ: “فأيُّ جفافٍ به قد هويت؟ وما زلتُ أمشي أنقِّب في العقل عن فكرةٍ للعروج لأصنعَ من وحيها قارباً للخلاص لأعبرَ نهر الكلام، وأرمي بصنارةِ الوعي أصطادُ من غَوره قبضةً من خيال” يستمرُّ البحث عن الفكرة المختلفةِ التي تستطيع انتشال العالمِ من أحزانه، حيث الرغبةُ في إعادة تشكيله تكبر حدَّ استيلائها على المشاعرِ والأفكار، فمآسي العالم لا تتوقَّف، وينبغي وضع حدٍّ لها، ولو تمَّ على حسابِ الذات: “وليسَ بمقدوري التوقُّف لحظة لأن لهذا الكون ربًّا ميسِّرا وليسَ بمقدوري الرجوع؛ لأنني مضيتُ محالٌ أن أعودَ إلى الورا” تزدادُ الحيرة وتتواصل مع استمرار البحثِ عن حلول؛ ليكتملَ التمازج بين الذاتِ والقصيدة، إذ تسكن الحيرةُ الشاعر وتقتاتُ على روحه، إلى أن يصابَ بالتعب والوهن، ويستشعرَ البعد والغربة؛ غربةَ الرحيل وغربةَ البحث عن الفكرةِ المدهشة (غربة): “تعبتُ من غربتي واثَّاءبت رئَتي وصرتُ أهربُ مني حين أقتربُ” ويقول أيضاً (فوانيس تكاد أن تنطفئ): “تعبتُ من كلِّ بوحٍ لا يمد يداً إلى الجمال فيبقى قبرهُ الورق” المحاولاتُ الحثيثة والرغبة الصادقة في انتشالِ العالم من بؤسه لا تتوقف عند الذات، بل تتجاوزها إلى القصائدِ والأشعار مثلما تتجاوزها إلى الشعراءِ الآخرين، وهي المهمة التي ينبغي أن يقومَ بها الجميع دونَ استثناء؛ لهذا يرفعُ صوته وينادي (عتبة ثانية): “أيها الشعرُ، أيتها المفرداتُ المتمردة، أيها الشعراءُ انتشلوا كلَّ هذه المآسي... ضمِّدوا كلَّ هذه الجراحاتِ النازفة بالبؤس واكتبوا أرواحكم على جسدِ البياض”.