نزوى.

في مدينةٍ تعانق أسوارُها السحاب، هواؤها ثقيلٌ بعبقِ الصاروج، خليطِ الجير والطين، يفوح من جدرانٍ تلامس الغيوم وتغتسل بالمطر. هناك في أعلى المدينة، ترتفع قلعةٌ شاهقة، حصنُ السلطة والجبروت. وفي زاويةٍ منها، قام مسجدٌ عتيق، منبرٌ خفيٌّ للصلوات والهموم، جدارٌ فيه خُصِّص كدفترٍ صامتٍ يخلّد الراحلين. وإذا أرخى الليلُ ستارَه، خطَّ أهلُ المدينة همومَهم على جدارٍ آخر ليقرأها الحاكم بعد الفجر. في يوم العيد، اجتمع أهلُ القرية حول التنور العظيم، ناره تتوقد كفتحةٍ من جهنم، وأصواتُهم تختلط باللهيب كرقصةٍ مهيبة، تلوح بصماتُ النار في وجوههم وأعينهم، بينما عينا نزوى تبحثان عن سيفٍ وسط الدخان. نزوى أحبّت سيفًا، لكنّ حاكم القلعة قضى بتزويجها لفارسٍ يسكن جبلًا وعرًا، طمعًا في تحالفٍ يحمي المدينة. كاد الخبر يخطف روحَها، كأنها تُلقى في قلب التنور. كانت تبكي وهي تطحن الرحى، وفي الصباح لم يكن خبزُ المدينة مالحًا فحسب، بل كان ثقيلًا كالحجر. أكل الناس خبزًا يحمل غصّتها وبقايا دموعها، وسيفٌ غائبٌ أرسله الحاكم في مهمةٍ مجهولة. أعلن الحاكم زواجَ نزوى بعد يومين من حصار المدينة. انقضت الأيامُ دون سيف. زُفّت على فرسٍ أسود، طافت الأسوار وودّعت المدينة. وعند الفجر، مرّ الحاكم بجدران المسجد، فوجد كلماتِها منقوشةً على جدار الراحلين: “سيف، حبُّكَ غيثٌ يُضيءُ صدري إلى البعثِ.” عاد سيف، بعدما أرسله الحاكم ليتجسّس على العدو، مظفّرًا بالمعلومات، وهو يظنّ أنّه سينقذ مدينته وحبيبته. علم أن نزوى أُخذت إلى الجبل، فلامس كلماتِها على الجدار كأنّه يلمس أنينَ روحِها. ذهب إلى الجبل بحثًا عنها، حاملاً قلبَه محطّمًا كأحلامه. هاجم العدوُّ المدينةَ. حملتْ نزوى خنجرَ أمِّها وهربتْ إلى الجبال. صارتْ روحًا من أرواحها. لم يَصِلِ المدينةَ سوى دموعٍ تحملُها الرياح. لم تُرَ نزوى ولا سيفٌ بعد ذلك. أُعيدَتْ أسوارُ المدينة، لكنّ هواءَها أثقلُ، وخبزَها أشدُّ ملوحةً، والريحُ لسانُهم في مدينةٍ صمّاء. قُتل جنودٌ كثيرون، لكنّ أشرسَ قتيلٍ كان قلبًا لم يستطع أحدٌ حمايتَه.