قرأ لـ “اليمامة” أصغر قصصه: “عود كبريت يهزم الظلام، ثم ينطفئ”، قبل ان يصاب بـ”الجلطة”..
حوار غير منشور مع جبير المليحان: الموت هو نهاية كل ضجيج الحياة.
في حوار غير منشور مع اليمامة، رسم القاص جبير المليحان صورة رمزية لمسيرته الأدبية قائلاً: “عود كبريت يهزم الظلام، ثم ينطفئ”. ليختتم هذا الحوار بعبارة أخرى كانت تكشف عن هواجسه الأخيرة: “الموت هو خاتمة كل ضجيج الحياة.” ربما كانت تلك آخر كلماته في هذا الحوار الخاص الذي أجرته معه الكاتبة وجيهة الحويدر معه قبل إصابته بجلطة دماغية استمرت أكثر من شهرين، ليرحل في مطلع سبتمبر الماضي، بعد مسيرة أدبية حافلة جعلته من أبرز رواد فن القصة القصيرة جدًا في المملكة والعالم العربي. في هذا الحوار الذي ينشر للمرة الأولى، يتحدث المليحان عن بداياته في حائل، ومفهومه للكتابة، وموقفه من الواقع الإنساني والفني، وعن رؤيته لدور الأدب في مواجهة الشرور وصناعة الأمل. كما يتناول مفهومه للقصة القصيرة بوصفها فنا يقوم على احترام الكلمة واقتصاد اللغة، والقدرة على تحويل اللحظة العابرة إلى معنى دائم، مقدما وصاياه الأخيرة لكتّاب القصة القصيرة، ننشر هذا الحوار في “شرفات” تكريما لمسيرة المليحان وإسهاماته في تطوير المشهد القصصي السعودي، وتوثيقا لصوته الأخير الذي تركه لنا: الصوت الصافي، المتأمل، والمضيء مثل عود الكبريت الذي هزم الظلام… ثم انطفأ. الكلمة هي سلاحي *القاص المبدع جبير المليحان. يكاد ان لا يخلو بيتاً عربياً وعلى وجه التحديد بيتاً سعودياً من قصة لك .. هل ابن حائل وهو صبياً حلم بأن يكون حاضرا في الذاكرة العربية الى ذلك الحد؟ -أرجو أن ألا يكون في كلامك مبالغة! عندما كنت صبياً لم أعرف معنى الذاكرة؛ كانت الدنيا مثل الأطفال. هناك صعوبات وإشكالات طارئة، وتافهة، كمنعك من اللعب، أو الخوض في مياه المطر. وليس بمقدوري ـ كصبي ـ أن أحلها فألجأ للحلم؛ فهو الكفيل بفتح كل المغاليق التي يضعها الآخرون في طريق براءتي. فيما بعد ترجمت كل ذلك كتابة. كتبت القصة في وقت مبكر دون أن أعرف تصنيف ما أكتب. أي أن الكلمة هي سلاحي لمواجهة الظلم، وأخطاء الآخرين، والحياة التي تقف أمام خطواتي المترددة. وأعتقد أني ما زلت أدافع عن نفسي بنفس الطريقة، وإن كان دون خوف مباشر من الحياة، الذي انتقل إلى الخوف من تمرّد الكلمات في سعيها لحريتها ـ غالباً لن نستطيع قول ما نريد! بكتيريا الأخطاء *المبدعون أناس من عوالم اخرى.. يرون ما نعجز نحن على رؤيته.. ويقرأون شفرات وجودية يصعب علينا فكها.. ما هي أدوات جبير للتحليق في تلك العوالم؟ -لدي قناعة بأن العالم مليء بالشرور؛ الأطماع، والمظالم، والفقر ، والجهل، والحروب. لكن هذا العالم فيه جوانب خيّرة كثيرة، وأحلام عريضة، وأناس كثيرون يناضلون من أجل تنظيفه من سوادِهِ، بأساليب كثيرة ومتنامية باستمرار عبر ضمائرهم الحية. البشرية تمشي دائماً إلى الغد المضيء. الفنون تقوم بدور كبير في بلورة الأحلام، ورسم مساحات قيم الخير وإشاعتها، وتعرية الأخطاء، ووضع الحلول. الأدب مثلاً: (رواية ـ قصة ـ شعر) يهدم العالم الواقعي المليء ببكتيريا الأخطاء ، ويقيم عالماً افتراضياً لعالم جديد ونظيف كما يراه. قد يكون فنتازياً، أو غير واقعي، لكنه حتماً يستمد رؤيته من انتكاسات الإنسان طوال تاريخه، وأحلامه التي تسبقه دائماً. إنه مبشر بوجه الغد دائماً. لست كاتبا محترفاً *تمر ازمنة على الكتاب والمبدعين يشعرون فيها بعجز شديد وعدم القدرة على تقديم منتوج جديد.. متى شعرت بأن قلمك انهكك ووضعته جانباً. واقتطعت لنفسك استراحة محارب ؟ -لست كاتبا محترفاً، ويسكنني الكسل باستمرار، غير أن ضجيج مخزون الذاكرة يدفعني ـ دائماً ـ إلى الكتابة، خاصة عندما يطاردني موضوع أو شخصية ما، وأشعر بتقصير تجاهه. ليس من حل لدي غير الكتابة. أغلب الوقت، لو فكرت في قلمي أشعر أنني لم أقدم شيئاً يذكر، وأن على أن أبدأ بشكل منظم وجاد. هكذا أقول لنفسي . لكن ينقصني التنفيذ؛ ذلك لم يحدث ! اقتصاد اللغة *القصة القصيرة .. فن وابداع جميل .. يتطلب مهارات من نوع خاص.. قد يكون أهمها السرد السهل الممتنع والحبكة الذكية ان صح التعبير.. ما هي الأبواب التي فتحتها لك القصة القصيرة؟ -احترام الكلمة؛ فالكلمة كائن له كيانه ومعناه ومساحة استخدامه. ومن متابعتي للكثير من القصص القصيرة أجد أن الكثير من الكتاب يفرطون في استخدام الكلمات والجمل بشكل يسيء إلى نصوصهم. ولذلك دعوت أكثر من مرة إلى (اقتصاد اللغة) فالقصة الصغيرة(ق ق ج ) تعتمد أساساً على (الكلمة)؛ فأي كلمة غير موزونة تخل بالنص. والقصة القصيرة تعتمد على (الجملة). والقصة القصيرة ، الطويلة نوعاً ما تعتمد على (المقطع) ..يتطلب الإبداع في القصة إلى كتابة جمل جديدة لم يسبق كتابتها، وبتصوير أخاذ، وحدث متنامي ومدهش. وهذا ليس صعباً على المبدع ذي الحصيلة المعرفية المتنامية. هذه هي القصة الناجحة. وبكل أسف أغلب ما يكتب بعيد عن هذا . تعرية زيف العالم *يقال من العيب ان نكون غير أنفسنا ..تلك العبارة تحكي قصصنا .. كيف نكون او لا نكون.. هل يجد جبير القاص في تلك العبارة شيء من الصواب ...؟ -هذا القول صائب. لكن من نحن؟ نحن جزء من هذا العالم، بدءاً من الولادة، البيت، الشارع، الحي، المدرسة، الأصدقاء، الكتب، الموسيقى، الفنون، الأحداث، الحروب، شكل القوانين وتطبيقاتها، الاقتصاد ، السياسية، وكل ما نعيشه، نراه، نستوعبه عبر الوسائل الضاجة طوال اليوم. نحن العالم بكل تناقضاته، ومزاياه. ودورنا أن نعكس ـ عبر وعينا ـ مناطق الجمال الخفية، مناطق القبح العابرة، الألوان: ألوان الطبيعة، ألوان الفرح أو الحزن. علينا ـ ككتاب ـ أن نعري زيف العالم. فحين نكتب فإننا نكتب أنفسنا ونكتب الآخرين. عود كبريت يهزم الظلام *كون كوكبنا ذرة في كون أزلي. وفيروس كورونا يلتهمنا واحدا واحدا.. أليست تلك هي نهاية الحكاية ؟ هل ثمة قصة أقصر من ذلك...؟ -نعم هناك قصة أقصر، لكنها تحتاج للشرح في مجلدات: (عود كبريت يهزم الظلام، ثم ينطفئ). الموت هو خاتمة كل ضجيج الحياة. *كاتبة سعودية ------- قصة غير منشورة كتبها في فبراير 2025م.. الظلال الداكنة.. قصة، من جبير المليحان.. جلس الرجل من نومه منتصف الليل؛ ربما ليشرب أو يقضي حاجته في الحمام. أدلى بساقيه إلى أرض الغرفة فبدا البلاط بعيدًا جدا، أرض الغرفة هناك تحته، ولا يمكن لقدميه أن تصلا إليها. التفت وهاله أن الغرفة واسعة جدًا جدًا. سحب شرشف غطاءه وأمسك بطرفة ونزل إلى الأرض. انتبه أن الهاتف والجوال فوق الطاولة التي بجانب السرير: كان من الصعب عليه الوصول إليهما، حتى لو مد يده على طولها. فكر بسرعة كيف يفتح باب غرفته؟ توجه إلى هناك، وجلس على طرف الجدار حيث بداية حافة الباب. نادى على زوجته النائمة فخرج صوته مثل خطوط ظل داكنة تفتت وتناثرت حول قدميه كمسحوق فحم. صرخ بقوة، ولكن صوته خرج أعمدة دخان تتفتت وتتناثر. عليه أن يذهب إلى الثلاجة الصغيرة بجانب الحمام، ولكن كيف يقطع هذه المسافة الطويلة من غرفة نومه؟ تفقد أعضاءه، فوجدها سليمة، لكنها قصيرة جدًا. بدت راحتاه كلعبة أطفال تتفرع منها أصابع صغيرة لدنة. نظر إلى أظافره، وابتسم ابتسامة مرة. أقعى بجانب الباب محتارًا وهو يتساءل عن سبب انكماشه! وفقدان صوته وتحوله إلى دخان داكن يتفتت. عندما قامت زوجته حاول الركض للفت انتباهها أو إمساك طرف ثوبها، لكنها اختفت بسرعة في الحمام. سمع خرير الماء وهي تغتسل، عادت وكادت ان تصم مسامعه، بصوت ارتطامها على السرير. مد قامته وشاهد يدها الكبيرة تسحب طرف اللحاف وتتغطى، ثم بدأ صوت تنفسها عاليًا وهي تغط في النوم. أقعى في مكانه كقط صغير. وعندما تحركت مرة أخرى إلى الحمام انتظر. وها هي قادمة وتقف أمام المرآة وتمشط شعرها، ثم تخرج زجاجة عطرها وترش على جيدها، وتتجه إلى الباب. فتحت الباب فانسل بسرعة إلى الممر المؤدي إلى الدرج. بحذر نزل عتبات الدرج مستعينًا بكفه الصغيرة وهو يمسك الجدار. توقف تنفسه وزوجته تنزل الدرجات قفزًا. كان خائفًا أن تطأه بالغلط. تمكن أخيرًا من الوصول إلى أرض الصالة. وهناك وقف بجانب الباب، عند صندوق الأحذية. لابد أن يخرج ابنه الآن ويتوجه إلى سيارته في الكراج. مضى وقت طويل حتى خرج الابن من المطبخ، بعد تناول فطوره متوجهًا إلى الباب، استخدم نفس الحيلة ومرق من طرف فتحة الباب وابنه يكمل لبس حذاءيه. وركض، ركض إلى زاوية الكراج، تعب من الركض كل هذه المسافة، لكن كان يرغب في رؤية الشارع. وها هو في الشارع أمام بيته. وقد بدأت سيارات البنات، والسائقين تتوافد بالطالبات وتنزلهن أمام مدرسة البنات المواجهة لبيته.. أصاخ السمع ولم يسمع أصوات السيارات كانت أحاديث الركاب تتحول إلى ظلال قاتمة، وتندمج مع عوادم السيارات وتتفتت في الأرض أو على الإسفلت. مشى على الرصيف محاذرًا تجنب القطط الضخمة، وحركة السيارات. بدت المنازل تصغر وقد سطعت فوقها أشعة الشمس. الشارع أخذ يضيق، وشاهد عدة أناس صغار مثل حجمه يمشون وهم يصدرون أدخنتهم السوداء التي تتفتت. وصل إلى نهاية الشارع، فرأى الشوارع كلها أمام ناظريه، ليست الشوارع، بل المدينة كلها بأحيائها وعماراتها وهي تنكمش بدون أصوات. رأى المدن البعيدة في الصحراء أمام مدّ ناظريه، وقد تصاعدت فوق سمائها الأدخنة السوداء. رأى البحر صغيرًا، مجرد بقعة ماء داكنة، وقد لاحت من طرفه المدن الصغيرة في عدة بلدان منكمشة مجاورة. مشى والبلدان تنكمش بمدنها ومساحاتها، وناسها يصغرون دون أصوات. 11/02/25 الخبر