شاعر مبدع واداري ثقافي ومؤسس مبادرات ومهرجانات سينمائية وثقافية..
أحمد الملا: الموازنة بين الشاعر والإداري مسألة معقدة.. والمشهد الثقافي تفوق على أحلامنا.
في عالم الثقافة والفنون بالمملكة، يبرز اسم أحمد الملا كشاعر بارز، واداري ثقافي، ومؤسس لمبادرات سينمائية ومهرجانات فنية تركت بصمتها في الساحة الوطنية. على مدى سنوات، قدّم الملا نموذجا فريدا يجمع بين الإبداع الشعري وإدارة العمل الثقافي، متجاوزا القيود الروتينية والتحديات المتعددة، ليصنع من الطموح مشروعا يثري الحركة الأدبية والفنية في المملكة. لم يكن أحمد الملا مجرد شاعر، ولا مدير مهرجانات فحسب، بل شخص يوازن بين الفن والإدارة، بين الشعر والسينما، بين الإلهام والممارسة العملية. من خلال إشرافه على مهرجان أفلام السعودية، ومهرجان بيت الشعر، ودعمه لمهرجانات الدمام المسرحية والطفل والعائلة، أظهر قدرة استثنائية على تحويل الرؤية الثقافية إلى واقع ملموس، متيحا المجال للمبدعين الشباب لاستكشاف مساراتهم وإثراء الساحة الفنية. هنا ملف عن هذا المثقف الفريد يقدم للقارئ جانبا من تجربة أحمد الملا الشاملة: شهادات من عايشوه وتعرفوا عليه، حوارا معه، وإضاءات سريعة على اهم انجازاته في الشعر والسينما والإدارة الثقافية. الشعر أساس أصيل * ما الذي جذبك إلى الجمع بين الشعر والسينما؟ هل كان قراراً فنياً أم نداءً داخلياً حاولت الاستجابة له؟ - الشعر أخذني عنوة إلى مجالات الفنون كلها. ظننت أنني في المتعة فقط، لكنها وهبتني، إلى جانب ذلك، التزود بالمعرفة: من ظاهرها الجمالي، مرورًا بدهشتها، ذهابًا إلى عمقها الفلسفي. توقفت طويلًا أمام السينما، واكتشفت أنني في حاجة إلى تدريب حاسة التذوق الفنية. انهمكت في البحث عن سينما أحبها، وكانت رحلة كشفت لي أن الشعر أساس أصيل في كل الفنون، وأن اللغة السينمائية شعرية البناء في كل مسارات الفيلم وسردياته الفنية. *كيف ترى العلاقة بين الصورة الشعرية في القصيدة والصورة البصرية في الفيلم؟ -وهل يمكن أن تكونا وجهين لحلمٍ واحد؟ - الأحلام هي أفلامنا الأولى وربما الأخيرة. وبين الصورة في الشعر والصورة في الأفلام، مشتركات المخيلة وأدواتها الإبداعية. الشعر حالة فردية يُنتجها مبدعها بلغة المفردات، أما الأفلام فهي لغات سردية جامعة: الصورة بتجلياتها، الحوار، الحكاية، الصوت والموسيقى، الزمن… والفيلم في أصله الأول قصيدة (فكرة، كتابة، سيناريو)، ثم تذهب في تخلقها الجمعي. هكذا أرى الشعر والسينما؛ الدهشة والمتعة جذر أساس لكلٍّ منهما. كما أن فيهما حقلًا شاسعًا وتيارًا واسعًا متفقًا عليه يُسمّى “السينما الشعرية”، وهذا مجال حديث آخر. إلا أنني أرى الشعر في مختلف تيارات السينما، بما فيها الوثائقي، بل أراه في كل الفنون، ولن أبالغ إذا قلت إنني أفتش عنه في كل جوانب الحياة. “ياله من يوم هائل” *هل تتذكر اللحظة التي شعرت فيها أن قصيدة نثرك أصبحت مشهدًا حيًّا كما لو كانت لقطة سينمائية؟ -رأيت ذلك حيًّا، دونما قصد، في مجموعتي الأخيرة “يا له من يوم هائل”؛ في قصائد عدة. ولكن حادثة، ظننتها عابرة، أعادت إحياء نص كتبته على أساس أنه مقال صحفي قبل عشر سنوات، وقرأته في حفل ختام مهرجان أفلام السعودية 9، وإذا بي أتنبه إلى صورته الشعرية لحظة القراءة في وجوه من أحب. في تلك الليلة، أضفته إلى المجموعة، بل وسمّيتها عنوانه. كل قصيدة هي فيلم في مخيلة صانعها، والأجمل أن تكون كذلك في مخيلة القارئ. *إلى أي مدى أثّرت تجربتك السينمائية في بناء الجملة الشعرية لديك، وفي إحساسك بالإيقاع والزمن داخل النص؟ -بناء الجملة الشعرية في قصائدي، قبيل الانتباه بعمق إلى بنية الأفلام وسردية الإيقاع والزمن فيها، كان يتوالى بعفوية مطلقة. ثم نبهتني الأفلام إلى أدوات إضافية؛ مثل: الإيقاع، الزمن، المتواليات، الإشارات المستترة التي تُبنى عليها صور ظاهرة لاحقًا، ومن لعبة المونتاج حتى تصميم الصوت وتصحيح الألوان. أحسست أنه أصبح جزءًا من قصيدتي اللاحقة دونما قصدية مباشرة. ربما ذلك، لكن ما أعتقده أن كتابتي أمست متأثرة باللعبة الفنية لصناعة الفيلم دون وعي بتلك التقنية حين الكتابة. * حين تفكّر في فيلم، هل تبدأ بالكلمة أم بالصورة؟ وهل يختلف الإلهام الشعري عن الإلهام السينمائي؟ -في الإبداع، لم أجرؤ حتى الآن على مغامرة صناعة فيلم، هذا أمر يصيبني بالرهبة والخوف. الفيلم عمل جماعي، ومتطلبات صنعته تشترك فيها فرق عدة. أما الشعر فهو حالة فردية، أذهب إليه قاطعًا نصف الطريق، فلست من المنتظرين، حتى لو لم أصل. لكني، كمتابع، أعتقد أن صانع الفيلم يبدأ بفكرة أولًا، ثم تتوالى المراحل العديدة، والتي لا غنى عن أيٍّ منها لإنتاج فيلم جيد. حكاية مهرجان “أفلام السعودية” *ما الذي دفعك إلى تأسيس مهرجان أفلام السعودية؟ وما هو الحلم الأول الذي راودك وأنت تخطط له؟ -تلك حكاية طويلة. لأتمكن من اختزالها؛ أتذكر تلك المرحلة في نادي المنطقة الشرقية الأدبي عام 2005، حيث كنت أحد أعضاء مجلس الإدارة، والمدير التنفيذي، ورئيس لجنة الفعاليات. اقترحت على المجلس البدء في عروض أفلام للجمهور أسبوعيًّا، إلى جانب برامج النادي المعتادة. خلال العروض، تعرفت أكثر على صناع الأفلام السعوديين الشباب، ومن لقاءاتنا مدة عامين متواليين، تولدت فكرة المهرجان، ونفذناه بالتعاون مع جمعية الثقافة والفنون بالدمام، في أولى دوراته عام 2008. أما الحلم الأول حينها، فكان رؤية المهرجان يتطور ويستمر كما هو عليه حاليًا، وأن تصبح صناعة الأفلام حقيقة واقعية كما هي الآن. *ما التحديات التي واجهتها في تحويل فكرة المهرجان إلى مؤسسة ثقافية مستدامة تجمع المبدعين من أنحاء المملكة؟ -التحديات كثيرة ومتعددة، منها ما دعانا إلى تحويل المهرجان إلى عمل مؤسسي، تمثل منذ أربع سنوات في تأسيس جمعية السينما (جمعية أهلية غير ربحية)، لتكون منظمة تُشرف على المهرجان، إلى جانب شريكه مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء)، وبدعم أصيل من هيئة الأفلام بوزارة الثقافة. جمعية السينما تعمل، إضافة إلى المهرجان، على مبادرات ثقافية وفنية متعددة طوال العام. التحديات كانت الدرس الذي تعلمناه، وأكبرها: تنويع مصادر التمويل، والتخطيط الاستراتيجي، ووضع السياسات الثقافية، والإدارة المؤسساتية بدلًا من الفردية، وكل ما يرتكز على علم الإدارة الثقافية الممنهج. دائمًا أنظر للتحديات بعين إيجابية، حتى لو كانت قاسية ومؤلمة حينها، وأراها من التجارب التي، لولاها، ما تعلمت كيفية معالجتها. الموازنة بين الشاعر والاداري * كيف توازن بين كونك شاعرًا حساسًا ومؤسسًا لمشروع ثقافي يحتاج إلى إدارة وعمل جماعي؟ -هذه مسألة في غاية التعقيد؛ فالإدارة الثقافية معرفة تحتاج إلى اختصاص، والتجربة المستمرة تصنع الخبرات فيها. وهي بحاجة إلى الجمع بين الإدارة الجيدة ومعرفة فنية بالمجال، وليس أحدهما فقط. من خلال التجربة الإدارية التي امتدت بي من عام 1984 وحتى اليوم، أعتقد أن الموازنة بين الشاعر والإداري تكمن في تذكير الإداري بأن الشعر حي في كل لحظة، ودائمًا أذكر ذلك علنًا لكيلا أنسى الشعر فينساني. من جهة مقابلة، أشفق على الشاعر وأرجوه أن يتفهم التزامات الإداري ومسؤولياته، يعينه في لحظات التوتر وضغوط العمل، يلطف الأجواء - ولو بالسخرية أحيانًا - ويبذر المحبة في بيئة العمل. أعتقد أنني آلفت بينهما، أو كما أظن. *هل تعتقد أن السينما امتداد طبيعي للشعر، أم أن كلًّا منهما يبحث عن لغته الخاصة؟ -بين الفنون مشتركات كبرى، وعلى كل فن أن يكتشف ويتناغم مع عوالم الفنون الأخرى. عند إبداع وإنتاج فنٍّ ما، يجب أن يُخلص مبدعه لأدوات هذا الفن، يعيش مفرداته، يغوص في عوالمه، ويتشرّب نظامه، ثم يتمرد عليه قدر المستطاع. حالات خالدة *أيّ اللحظات في إدارة المهرجان كانت الأكثر تأثيرًا فيك إنسانيًا وشعريًا؟ -كثيرة تلك اللحظات المؤثرة. سأذكر حالة عامة وأخرى خاصة. الأولى: عندما ألتقي بصانع أفلام يذكرني بأثر المهرجان في حياته. أما الثانية، فهي تتكرر دائمًا عند إلقائي كلمة ختام كل دورة من المهرجان، حيث أرى وجوه من أحب، بعد أن عشنا أيام المهرجان ولياليه معًا، وأكتشف أنني أودعهم إلى لقاء - يظنونه قريبًا، وأراه بعيدًا - في العام القادم؛ فأشرق بالدمع. *هل ثمة فيلم سعودي أو عربي رأيته “قصيدة مكتوبة بالصورة”؟ وما الذي تعلّمته منه؟ -كثيرة تلك الأفلام. بدءًا من فيلم الياباني أكيرا كيروساوا “أحلام”، وأنيميشن مايازاكي، مرورًا بأفلام أندريه تاركوفسكي، وفيلم التونسي ناصر خمير “الهائمون” (وكتبت قصيدة بنفس العنوان). أذكر أيضًا فيلمًا بعنوان “الجمل الباكي” لمخرجة من منغوليا. ومن السعودية، عدد من الأفلام العالقة في ذهني، وخاصة من الأفلام القصيرة. الصورة سيدة اللحظة *كيف ترى علاقة الجيل الجديد من السينمائيين بالقصيدة؟ وهل ما زال الشعر حاضرًا في وجدانهم رغم تسارع الصورة؟ -كثير من صناع الأفلام يستشهدون بالشعر في حياتهم وفي أفلامهم، إضافة إلى اهتماماتهم الفنية والفكرية الأخرى: الرواية، التشكيل، الموسيقى، الشعر، والفلسفة.. غياب ذلك يُنقص من مخيلتهم. الصورة سيدة اللحظة الراهنة، هذا صحيح بالنسبة للمتلقي، لكن صانعها لن يتمكن من ملئها بالمعنى والمشاعر إلا بالمعرفة التي يحصّلها من الفكر والآداب والفنون الأخرى، ومنها الشعر. *هل هناك لحظة نقدية أو موقف ثقافي شعرت فيه أن عليك الدفاع عن قصيدة النثر من داخل المشهد الأدبي السعودي؟ -ربما في البدايات، أثناء تلك المرحلة من المواجهات بين الحداثة وأضدادها، وربما أيضًا لأنها ارتبطت بمرحلة حماس الشباب. أما الآن، فإني على يقين بحق تنوّع الذائقة. كنت ولا أزال أجد الشعر في كل شكل ولغة: الشعبي، النبطي، الفصحى، الموزون، الحر، والنثر. الإبداع باقٍ ما بقي الإنسان، وأحيانًا المختلف عليه يبقى أكثر. * ما الذي يجعل قصيدة النثر، برأيك، قادرة على البقاء والتجدد في زمن السرعة والضجيج الرقمي؟ -تبقى قصيدة النثر وتتجدد، بصدقها وتناولها لما هو غير مكرّر. وينطبق ذلك على الشعر كله، بل على كل فن. وزمن السرعة والحياة الرقمية يمكن أن يكون عاملًا مساعدًا لتسهيل الوصل بين الكاتب والقارئ. الشعراء القريبين *من هم الشعراء الذين تشعر أنهم أقرب إليك من حيث الرؤية لا الأسلوب؟ -بعد حياة مع الشعر، أستطيع القول إنني أنتمي في تذوقي إلى القصيدة في فردانيتها، وأحاول الاستفراد بالنص بعيدًا عن صاحبه. وأقرب الشعراء لي تربطني بهم علاقة إنسانية، ليس الشعر من ضروراتها الكليّة. لو تجرأت على ذكر أسمائهم، لفاضت “اليمامة” بالأجنحة. *كيف تقيس أثر المهرجان بعد أكثر من عقد على انطلاقه؟ وهل وصل إلى الصورة التي حلمت بها؟ -نعمل الآن على الدورة الثانية عشرة من مهرجان أفلام السعودية، الذي سيقام في أبريل 2026. قبل كل دورة، نحرص على أن تكون أفضل من سابقتها، من كل الجوانب: المحتوى، الشكل، البرامج المصاحبة، اللوجستيات. نرفع من قيمة المستهدفات، ونضع المعايير والقياسات الموضوعية، ثم يتم جمع المخرجات عبر جهات مستقلة. دائمًا لدينا صورة متخيلة لا تقف عند حد. أتمنى أن نستمر، ولا نصل. مضيعة للجهد والوقت *ما الدور الذي تتمنى أن يلعبه الجمهور في هذا الحدث السينمائي؟ وهل ترى أن المتلقي شريك في صناعة المعنى؟ -كل منتج إبداعي لا يسعى إلى جمهوره ويضعه في حسبانه، هو مضيعة للوقت والجهد. مثل كتاب أو فيلم جيد، يختفي في الأدراج أو المستودعات. علينا أن نضع في الحسبان تنوع الجمهور، فحتى صناع المشهد الثقافي هم جزء منه في البدء. لهذا نحرص أشد الحرص على تنوع عموم الجمهور، ودائمًا نستبين مدى رضاهم ونطلب آراءهم في استبيانات تعقب كل دورة. *إلى أي مدى تؤمن بأن السينما يمكن أن تكون جسرًا بين الثقافات، كما كانت القصيدة في الأزمنة السابقة؟ -الصورة سيدة المشهد العالمي الآن، والسينما من أهم المؤثرات في ذهنية ومشاعر المشاهد، بما تقدمه من حمولات في طيّاتها. هي لغة المخيلة المشتركة، التي لا تحتاج إلى تفسيرات أو تبريرات أو رسائل مباشرة. أؤمن أن الفيلم الجيد فنيًا سيصل إلى جمهوره، على اختلاف الثقافات واللغات والعادات، وأينما كان أو سيكون لاحقًا. فهو عابر للزمن، ويمكن له أن يحيا كل مرة من جديد، وعند كل مشاهدة. وفي ذلك ليتنافس المتنافسون. المستقبل اليوم فاق أحلامنا *كيف تنظر إلى المستقبل الثقافي في المملكة اليوم؟ وهل تشعر أن الحلم الذي بدأ بالشعر والسينما يكتمل الآن؟ -مستقبل الثقافة السعودية اليوم يحقق أحلامًا فاقت ما حلمت به يومًا ما، حتى جددت أحلامي وتفوقت عليّ. الرؤية التي تُسيّر المشهد وتضع استراتيجيات المستقبل، هي التي رفعت سقف الأحلام وشقّت لها الطريق. أما التحديات التي زالت وودعناها، فأؤكد أننا أمام تحديات مختلفة، شمسها تشرق، وتتشكل كل يوم. وعلينا حسن التعامل معها ومعالجتها، فعند التجربة تبرز التحديات. من لا يريد ذلك، عليه أن يتجنب العمل ويرتاح في الظل. *أخيرًا، ما الحلم الذي لا يزال يراودك: قصيدة لم تُكتب بعد، أم فيلم لم يُصوّر بعد؟ -بالطبع، حلم حياتي: قصيدة لم تُكتب أبدًا.