من تحرير رشاد كامل..

قصة تأسيس ثالث أقدم مؤسسة صحفية عربية.

صدر هذا الكتاب ضمن مشروع الكتاب غير الدوري لدار روز اليوسف الصحفية في مصر بعنوان “تراث روز اليوسف”، وتضمن الكتاب واحدا وعشرين حلقة نشرتها صاحبتها روز أو فاطمة اليوسف بين عامى ١٩٣٧ - ١٩٣٨ للميلاد، وهي تغطي ذكرياتها عن تأسيس وإصدار مجلتها “ روز اليوسف “ عام ١٩٢٥م وحتى عام ١٩٣٢ للميلاد، وحسب هذا التاريخ تعتبر دار روز اليوسف الصحفية ثالث أقدم مؤسسة صحفية عربية لا تزال قائمة بعد مؤسسة الأهرام ودار الهلال، وهذا العام هو ختام القرن الأول من عمرها.      صاحبة المذكرات روز اليوسف لها قصة غريبة، فقد ولدت في لبنان لعائلة من أصل تركي على الأغلب، وتوفيت أمها بعد ولادتها بقليل، وحيث إن والدها كان تاجرا فقد تركها في عهدة أصدقاء مسيحيين، ولم يعد، لم تكن طفولة روز سعيدة، ولم تكن تلقى الحنان والرعاية إلا من مربيتها، وعندما بلغت العاشرة وافقت الأسرة على تركها لأحد أصدقاء الأسرة ليصحبها معه في هجرته إلى البرازيل، وهنا صارحتها مربيتها بأنها مسلمة وليست مسيحية وأن اسمها فاطمة اليوسف وليس روز، وعندما توقفت الباخرة في الإسكندرية غادرتها الطفلة فاطمة، إما هاربة وإما لأن رفيقها قد عهد بها إلى أحد اصدقائه، و خلال عامين تعرف عليها عزيز عيد أحد آباء المسرح المصري، وتعاهد موهبتها التمثيلية بالرعاية كما كان لها بمثابة الأب، وتدرجت حتى أصبحت ممثلة أولى، ومن أشهر مسرحياتها “ العشرة الطيبة “ التي لحنها سيد درويش. وقد تزوجت للمرة الأولى من الممثل “محمد عبدالقدوس” وأنجبت له الكاتب المعروف إحسان عبد القدوس، وتزوجت للمرة الثانية من زكي طليمات، الذي كان من أعمدة المسرح المصري، ومن مؤسسي المسرح الكويتي. وأنجبت منه ابنتها أمال التي ذكرت روز أنها شرعت في كتابة مذكراتها بناء على إلحاح ابنتها هذه. وربما كانت هناك مذكرات أخرى لروز اليوسف عن عملها الفني. اعتزلت الممثلة روز العمل الفنى يوم بدأت العمل الصحفي.  تذكر روز أنها كانت قد انتهت من عملها الفني وبدأت إجازة المسرح السنوية في أغسطس عام ١٩٢٥ م وبينما كانت تسهر مع زوجها وأصدقاء في مقهى يؤمه صحافيون وفنانون جاء من يبيع نسخا من صحيفة “ الحاوي” ، اشترت روز نسخة وقرأت ما ورد في الصحيفة من نقد وتهكم على الفنانين، ثم تمنت أن تكون هناك صحيفة تدافع عن الفنانين، وبعدها تساءلت لماذا لا تؤسس هي هذه الصحيفة؟ وطرحت الفكرة على المجتمعين، وكان أحدهم محررا في صحيفة البلاغ فهمت منه أن طبع خمسة آلاف نسخة من ملزمتين تكلف اثني عشر جنيها وفي حالة بيعها جميعا سيعود عليها ذلك بربح قدره خمسة جنيهات، وهنا حسبت روز الدخل فقالت أن دخلها من الصحيفة الأسبوعية سيكون عشرين جنيها شهريا، وحيث إن مرتبها من عملها في مسرح رمسيس كان سبعين جنيها، فسيكون دخلها تسعين جنيها. بدأت المشروع وسط عدم تصديق الأصدقاء، وخاصة عندما أصرت على أن تسمي المجلة بإسم روز اليوسف، أي اسمها، وهذه حالة فريدة على مستوى العالم.   بدأت الصعوبات عند نقاش ما يجب أن تحويه المجلة من مواد ثم كان الاتفاق على أن تكون مخصصة للأدب العالي، أي الراقي. وما أن علمت إدارة مسرح رمسيس بالأمر حتى هددتها بالفصل لأنها لن تستطيع أن تجمع بين العملين. أصرت على موقفها، وخسرت مرتبها الشهري. وأصبح تدبير ميزانية أول عدد شاقا، فقرروا طبع دفاتر اشتراكات يبيعون الدفتر لبعض المشتركين، يتقاضون الثمن ويقوم المشترك بتوزيع الاشتراكات على من يرغب، أم كلثوم اشترت دفترين في كلٍ منهما عشرة اشتراكات، تشجيعا منها، أحد من قصدوهم دفع ثمن اشتراك واحد ورفض أخذ المجلة لأنها مجلة فنية، فلا يأمن أن تدخل بيته. تواصلت روز اليوسف مع محمد التابعي الذي كان يعمل في مجلس النواب المصري، ويعمل أيضا محررا فنيا بالأهرام واستقطبته ليكون مسئولا عن التحرير، تقاسما المصاعب، فيما بعد أصبح التابعي من أهم الصحافيين في مصر.   ولما كانوا عاجزين عن دفع أجرة مقر للجريدة فقد خُصص لها غرفة في بيتها الكائن في عمارة يملكها أحمد شوقي أمير الشعراء، وكان الوصول إليها يقتضي صعود ست وتسعين درجة أكثر من مرة في اليوم. صدر العدد الأول، واكتسب شهرته وتوزيعه من اسم الممثلة، وظنت أن بيع خمسة آلاف نسخة من العدد الأول سيكون تمويلا كافيا للعدد الثاني، لكن تبين لها أن متعهد البيع لن يدفع ثمن العدد الأول إلا بعد استلامه كل نسخ العدد الثاني، ولذا فقد كان عليها أن تمر بضائقة أخرى، ولكن المشكلة بدأت بعد ذلك إذ إن الجمهور لم يتحمل الأدب العالي الذي تخصصت فيه الصحيفة، فانصرف عنها، وعند العدد السابع لم ينفد إلا خمسمائة نسخة، وعلق محمد التابعي بأن الجمهور يحب وجود الفكاهة والنقد الطريف الذي يبعث بالابتسام إلى الشفاه. وبدأت المجلة تغير أسلوبها، لم يبق للمجلة مال تستخدمه ، ولكن الإنقاذ جاء من وزارة الأشغال التي كانت مسؤولة عن الحركة الفنية، أعلنت الوزارة عن مسابقة للممثلين والممثلات وقررت جوائز للفائزين في مقدمتها ثمانين جنيها للفائز الأول، وقد فازت روز بالمركز الأول رغم أنه كان قد مضى عليها سنة منذ اعتزلت التمثيل، وحاول البعض أن يحجب عنها الجائزة بسبب ذلك لكن تبين أن أحدا لم يكن يملك مبررا كافيا، وأصبحت الثمانون جنيها الممول للأعداد التالية، ولولا ذلك لكان العدد السابع آخر أعداد المجلة.  الخط الجديد للمجلة كفل لها النجاح، وكانت خفة الروح سببا في تصاعد توزيع المجلة إلى تسعة آلاف نسخة منذ العدد الثلاثين. تذكر روز أن الاهتمام بالمجلة انتقل إلى الدوائر العليا، وأصبح كثير من المهتمين يحملون المجلة خفية بين الصحف اليومية، حتى لا يقال عنهم أنهم من المهتمين بمطالعة المجلات الفنية الطويلة اللسان، وهنا اعتزمت روز أن تجبر الجميع على احترام المجلة وإعطائها المكانة الأولى بين المجلات، فكان أن تحولت وبنفس أسلوبها إلى مجلة مهتمة بالسياسة، وأصبحت معروفة بأنها “مجلة سياسية انتقادية مسرحية أدبية مصورة”. وحيث إن روز كانت من المعجبين بالزعيم سعد زغلول فإنها تبنت سياسات حزب الوفد، ضد الأحزاب الأخرى، تلك التي كانت أقرب للسلطات الإنجليزية، وقد امتدح المجلة سعد زغلول باشا، كما كان خلفه مصطفى النحاس يذكر “مجلتنا روز اليوسف”، رغم أن مكرم عبيد الوفدي رفض أن تكون من صحف الوفد لأنها تحمل اسم صاحبتها، مما عنى له إصرارها على قدر من الاستقلالية. وقد أكد استقلالها فعلا أنها - وقد عانت الكثير من الإيقاف ومصادرة الأعداد - اختلفت بعد ذلك مع الوفد وأعلنت انتقاده، وقد بلغ من تأثير المجلة أنها احتفلت مرة بيوم ميلادها، فدعت زعماء الأحزاب المعارضة، أرسل الملك فاروق سكرتيره الصحفي “كريم ثابت” للتهنئة والتحية، ولكنه قال: إن الديوان لا يرغب في نشر مبادرة القصر هذه، وعندما سألت عن السبب كانت الإجابة: لأن مجلتك لونها فاقع في مهاجمة الإنجليز، وأنت عارفة الظروف.  حاول زوجها إثناءها عن الاستمرار في العمل الصحفي، لتصحبه إلى باريس وتتفرغ للمسرح لكنها رفضت بشدة. وأصرت على مسارها الوطني، وقد عانت مجلتها من الإيقاف مرارا في عهد حكومة محمد محمود الحريصة على عدم الاصطدام بالانجليز والمعادية الوفد، وكذلك في عهد إسماعيل صدقي باشا، وعندما بلغت المجلة السنة السابعة من العمر وصلت إلى إصدار عددها الأسبوعي رقم ١٨٩ ، بينما كان من المفروض أن تكون قد وصلت العدد ٣٦٠، وكل ذلك بسبب التعطيل. كانت مجلتها من أكثر المجلات اعتمادا على الكاريكاتير الناقد واختراع الشخصيات الكاريكاتورية مثل شخصية “ المصري أفندي” .  كانت روز ذات أسلوب فريد في الكتابة، عندما سُحبت رخصة المجلة وكان عليها دفع مائة وخمسين جنيها لتستعيد الرخصة، فتوسط لها أحد الأصدقاء عندما عجزت عن السداد ، كان شرط إسماعيل صدقي باشا رئيس الوزراء كما كتبت  ساخرة “ إن دولته يقبل النقد البريء، ولا يضيق صدره بفرش الملاية في حدود الأدب، ولكنه لا يحتمل الادعاء على خلقته بالقبح والتشويه، خلقته مش ولا بد صحيح، ولكنها معتلة، لم تفارقها الوسامة، وكانت فيما مضى بل وللآن موضع الإعجاب من الجنس الناعم، ومبعث الحوادث والأحداث بين ربات الخدور وغير ربات الخدور، ثم إن تمثيل شفتيه على الصورة التى نسجلها في رسومنا الكاريكاتورية أمر يعكنن مزاج الباشا، أكثر من أى شيء آخر، وأنه يجب أن نتذكر أن الله جميل يحب الجمال”.  لم تكن روز اليوسف تتراجع عن مواقفها التى أدت لإغلاق الصحيفة، فعندما أغلقت في عهد محمد محمود أصدرت مجلة “ الرقيب “ فعطلتها الحكومة، ثم أصدرت مجلة “ صدى الحق” فعُطلت بعد عدد واحد ثم أصدرت “ مصر الحرة “  فعُطلت، وعندما سحبت رخصتها في عهد إسماعيل صدقي أصدرت مجلة الصرخة التى استمرت ٤٢ عددا حتى عادت روز اليوسف للصدور.   بقيت المجلة على خطها المناوئ للإنجليز وللفساد، فعلى صفحاتها فجر الكاتب إحسان عبد القدوس قضية الأسلحة الفاسدة التى تم استيرادها ليستخدمها الجيش المصري في حرب ١٩٤٨ م، وكانت تلك من القضايا التي فاقمت من تذمر الجيش المصري، الذي ثار، و من ثم تولى حكم البلاد عام ١٩٥٢ ولا زال حتى اليوم .      توفيت السيدة روز اليوسف عام ١٩٥٨ ، وقد الت المؤسسة إلى الحكومة بعد تأميم الصحافة، ورغم ذلك وبسبب عناية صحيفتي المؤسسة “روز اليوسف” و “ صباح الخير “ بالكاريكاتير الذي شارك فيه أشهر رساميه في مصر فقد ظلت صحيفة تحمل نكهة معارضة، وليس لمن يقرأ هذا التراث الغني إلا أن يتساءل عن شكل العصر - ربما كان قريبا - الذي قد ينتهي فيه عصر الصحافة الورقية.