الموجة «المشوشة»!
أيام العصر الذهبي للإذاعة والصحافة في المملكة، كانت غالبية البرامج التي تبثها اذاعة الرياض واذاعة البرنامج الثاني (إذاعة جدة لاحقا) من إعداد وتقديم صحفيين. وبالمثل كانت الكثير من المقالات، في التحليل السياسي، على وجه الخصوص، تصل الى شارع الصحافة قادمة من شارع الإذاعة والتلفزيون ( يا لأسماء الشوارع المبهجة!). الذين عملوا في شارع الصحافة آنذاك يتذكرون كيف كان كثير من رؤسائنا وزملائنا يتنقلون مابين صالة التحرير واستديو الإذاعة. كنا نرى عبدالله مناع رحمه الله يلاحق الزمن مابين المطابع ليلحق بموعد تسجيل برنامجه الإذاعي، وكان علينا أن ننتظر عودة الدكتور هاشم عبده هاشم من شارع الاذاعة بعد كتابة التعليق السياسي لنشرة الظهيرة، فيما كان جبريل أبو دية يعود بعد العشاء ليحدثنا عن المواهب التي لفتت انتباهه وهو يتلقى مشاركات المبدعين الشبان. وكان محمود تراوري ينهي عمله مبكرا للانطلاق الى استديو برنامج «النادي الأدبي» أما يحيى باجنيد فكان يهدينا «سيديهات» تمثيلياته الاذاعية المدهشة. كانت الإذاعة منصة للفكر والذائقة، وفضاء واسعا لبرامج السياسة والثقافة والفنون، لكن تلك المكانة تراجعت تدريجيا، حتى وصلت الإذاعة اليوم إلى مرحلة من التواضع في الإمكانات والمضمون. لا أحد يستطيع أن ينكر تراجع مستوى البرامج والمذيعين في إذاعاتنا الرسمية. كما أنه ليس سرا القول بأن الدراما الإذاعية بشقيها الفصيح والشعبي (التي تميزت بها اذاعة جدة على وجه الخصوص) قد ماتت بإلغاء قسم الدراما بالإذاعة ( ترى كم كانت تكلفته!)، وذلك نتيجة التركيز الكامل على قنوات التلفزيون السعودي وقناة sbc، رغم أن تكلفة الإنتاج الإذاعي زهيدة جدًا مقارنة بغيره. ومن وجهة نظر صحفي متابع للمشهد الاذاعي المحلي تبدو اذاعة نداء الاسلام أفضل إذاعاتنا من الناحية المهنية ، فبالرغم من تركز اهتمامها على التعريف بالإسلام وترسيخ قيمه الوسطية والوطنية والأخلاقية، وذلك من خلال برامجها المتخصصة. إلا أن لديها هيكلا برامجيا مهنيا متوازنا، فهناك برامج الندوات والمحاضرات والحوارات والتقارير ومختلف الفنون الاذاعية والفقرات الخفيفة، فيما اكتفى مسؤولو البرامج في إذاعتي الرياض وجدة بتلقي اتصالات المستمعين لبرامج الهواء المباشرة -الممتدة ثلاث أو أربع ساعات -، والتي تتكرر في كل فترة من فترات الاذاعة اليومية، وتفتقد إلى أي مضمون ثقافي أو فكري. واليوم، مع تعيين رئيس جديد لهيئة الإذاعة والتلفزيون، تتجدد الآمال بإعادة الاعتبار للإذاعة السعودية، ولعله من حسن حظ الاذاعة (ومن حسن حظنا نحن عشاقها) أن الرئيس الجديد جاء من قلب مهنة الصحافة وتدرج في مراحلها. مؤملين أن يكون ملف الإذاعة «المشوش» ضمن الملفات الأولى التي ينظر اليها لتعود مجددا إلى البث على الموجة «الصافية».