
حين تقع عيناك على وجه ماوري محفور بالخطوط، تتوقف أمامه بتعجب، حيث يتحول الجلد إلى كتاب مفتوح، والجسد إلى ذاكرة حية تمشي على الأرض. النقوش ليست زخارف تُعرض للعين، ولا شعارات تُكتب بالحبر، وإنما كلمات حُفرت بالإزميل والمطرقة وغُذيت من رماد النبات ونار الأسلاف. عند الوجوه الموشومة يلتقي الجسد بالروح، ويصبح الحاضر امتدادًا للماضي، والإنسان مرآة لقبيلته وكتابًا لأجداده. التاموكو، الذي يعود تاريخه إلى أكثر من ثمانمئة عام، جاء مع الماوريين من شرق بولينيزيا، تألق بتميز تقنيته مقارنة بالوشم البولينيزي الآخر. فحين كانت الشعوب الأخرى تستخدم أمشاطًا لإدخال الصبغة تحت الجلد بشكل سطحي، طور الماوري أزاميل تُسمى “ أوهي “ لقطع أخاديد عميقة في الجلد، مما ينتج ندوبًا دائمة. وقد تطور هذا الفن عبر الزمن، ففي مراحله الأولى كان الوشم مرتبطًا بطقوس الحداد حيث كانت النساء يقمن بإحداث جروح في أجسادهن ووضع السخام فيها، وهو ما كان يُسمى هايهاي. وقد لاحظ المراقبون الأوروبيون الأوائل نمطًا قديمًا من الوشم يُعرف بـ “موكو كوري”، شبكة من الخطوط الأفقية والعمودية تغطي الوجه. أحبار الوشم كانت تُصنع من مواد طبيعية تمامًا، فالصبغ الأسود المخصص لوشم الوجه يُستخرج من الخشب المحروق، بينما الأصباغ الفاتحة كانت تأتي من صمغ شجرة الكاوري المحروق أو يرقات مصابة بفطريات معينة، تُخلط مع الدهون الحيوانية. هذه الأصباغ كانت تُخزن في حاويات مزخرفة تُسمى أوكو، إرث عائلي ثمين. أما الإزميل أوهي، فكان يُصنع من عظم طائر القطرس أو عظام وأحجار حادة أخرى، ويأتي أملسًا أو مسننًا بحسب النمط المطلوب. التاموكو عند الماوري يعلن النسب ويحفظ الكرامة ويثبت الهوية. الجبهة تكشف الرتبة، الخدان يبيّنان المهنة، الذقن يكشف توقيع الزعيم، وذقون النساء تعلن الشرف والأنوثة كما يعلن التاج والعقد. وقد تجلّى هذا الارتباط في وثائق تاريخية، حيث استخدم زعماء الماوري “التاموكو” الخاص بهم كـ توقيع على معاهدة وايتانجي عام 1840، مؤكدين أن الوشم وثيقة هوية لا يمكن تزويرها. كان التاموكو طقسًا مقدسًا ومؤلمًا، يُشق الجلد بعمق ثم يُغمس الإزميل في الصبغة ويُثقب الجرح بضربة مطرقة، وتُنجز العملية على عدة جلسات للسماح بالشفاء. من قواعد الطقس: الامتناع عن تناول الطعام باليد لتجنب تلويث الوشم، وتجنب الأطعمة الصلبة، وعدم البكاء من الألم. وكانت الطقوس مصحوبة بالموسيقى والغناء والترانيم، وتُستخدم أوراق شجرة الكاراكا كبلسم لتسريع الشفاء. أصل الفن قديم، يروي الماوري أن الشاب “ماتا أورا” هبط إلى العالم السفلي وعاد وقد تعلم سر النقش من والده، ثم صعد إلى زوجته “نيفاريكا” ليعلّمها ما تعلم. في عالم ماتاورا، كان الوشم في الأصل زينة مؤقتة تُسمى wakairo tuhi، تُصنع من الطين والسخام، وأظهر والد نيفاريكا عدم جدوى هذا الوشم المؤقت، فهكذا وُلد التاموكو على يد البشر والأسطورة معًا، ليصبح جسرًا بين الحاضر والأسلاف. سبعينيات القرن العشرين شهدت نهضة جديدة، بعث الماوري لغتهم وأحيوا تقاليدهم، وكان التاموكو أول العائدين. أسسوا جمعيات تحمي الفن من التشويه، وأصبح رمزًا للفخر والهوية. النساء دخلن الميدان، فبرزت فنانات أعادن الاعتبار للوشم النسوي، وظهر التاموكو على وجوه السياسيين والفنانين ورجال الأعمال، صار شرفًا، والماضي زينة للحاضر. من المهم التمييز بين تا موكو وكيريتوهي؛ الأولى كما ذكرنا هي ممارسة ثقافية مقدسة خاصة بالماوري، وتشير بصريًا إلى نسب الشخص ومكانته، ولا يمكن لغير الماوري الحصول عليها. أما كيريتوهي فهي تصاميم مستوحاة من فن الماوري لكنها لا تمثل نسبًا أو هوية شخصية، مناسبة لغير الماوري الذين يرغبون في الاحتفاء بالفن دون ادعاء ملكيته. على الرغم من ثراء الرمزية، يصعب على غير الماوري فهم المعاني الكاملة لتصاميم التاموكو، فالمعرفة التقليدية كانت تُنقل شفويًا، وقد دمر المستوطنون الأوروبيون الكثير من السجلات المكتوبة. التصاميم تحمل معاني شخصية مرتبطة بنسب الفرد (whakapapa) وإنجازاته، مما يجعل تفسيرها صعبًا على الغرباء. الماوري أعادوا الحياة للفن، ومعهم النساء اللواتي حملن مسؤولية الجمال والهوية، والسياسيون والفنانون الذين اختاروا النقش علامة فخر ووعي. كل وجه أصبح موسوعة صغيرة، كل خط رسالة، كل حلزون رمز. الماضي صار حاضرًا على البشرة، والحاضر صار الماضي على الخطوط الجديدة. حتى في المجتمعات الأخرى، صار التاموكو موضة، بقيت القيم الأصلية حاضرة. كل وشم يحمل إرثًا، كل نقش يحمل حكاية، وكل جلد يحمل ذاكرة الجماعة. الفن امتد من الجزيرة إلى العالم، لكن القلب بقي في نيوزيلندا، بين الغابات والحيوانات، بين الأجداد والنسل الجديد. التاموكو أكثر من وشم، أكثر من فن، أكثر من صورة جمالية. صار تاريخًا حيًا، صار كتابًا مفتوحًا، صار مرجعًا للحياة، وصار صلاة مكتوبة بالدم والنار والرماد. الإنسان على وجهه يحمل أسرار قومه، ويمشي بين البشر حاملًا ذاكرة الجبال والغابات والمحيطات، مؤكدًا أن الفن الحقيقي خالد، وأن الجسد كتاب لا ينتهي.