الذوق الخاص.
الذوق الخاص ليس سلوكاً ثانوياً يُضاف إلى مظهر الإنسان، بل هو بصمة خفيّة تبوح بجوهره حين يصمت، وتكشف معدنه حين يختبره الاحتكاك البشري اليومي. فثمة أناس يملكون فصاحة في القول وثراءً في المعرفة، غير أن ذوقهم يسقط عند أول موقف بسيط، بينما آخرون لا يملكون كثير كلام، لكن حضورهم مريح، لأن ذوقهم يسبقهم، يعرفون متى يصمتون، ومتى يُنصتون، ومتى يتوارون قليلاً ليمنحوا اللحظة حقها، والآخر احترامه. وليس الذوق في جوهره سوى وعي راق بالمسافة التي ينبغي أن يتركها الإنسان بينه وبين ما يزعج غيره، أو يجرحه، أو يستحوذ على مساحته النفسية دون إذن. فحين ينشغل أحدنا بهاتفه وهو في حضرة من يُكلمه، فإن ما يسقط في تلك اللحظة ليس الانتباه فحسب، بل يسقط معه جزء من قيمة الحوار ومعنى الحضور الإنساني. وحين يقاطع شخص آخر في حديثه، ظناً منه أنه أدرى أو أسرع أو أوضح، فإنه يهدم معنى المشاركة قبل أن يهدم الفكرة نفسها. ومن الذوق أيضاً ألا يُحوّل المرء الطعام إلى لحظة استهلاك مرتبكة يتزاحم فيها المضغ والكلام، فالمائدة - في أصلها - مساحة ألفة وطمأنينة، لا ناقلاً لصوت ممضوغ وإيقاع فوضوي. ومن الذوق أن يسع قلبك قبل طريقك، فتُؤثِر غيرك عند التقاطعات، وتمنح الممر لمن ينتظر، وتدرك أن الثواني التي تعطيها ليست تأخيراً في الزمن، بل تقدماً في الخُلُق. ومن تمام الذوق احترام الأمكنة التي وضعت لغيرك، كالمقاعد المخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة في المساجد، فلا يليق بإنسان صحيح الجسد أن يستولي على ما رُتب لغيره بدافع الراحة أو اللامبالاة، لأن الاعتداء على حق الآخر - ولو كان مقعداً - خطأ صغير في الظاهر، كبير في الدلالة. والذوق في النهاية ليس قائمةَ محظورات، ولا مجموعة تعليمات تعلق في الذاكرة، بل هو حضور داخلي يتغذى من التربية، ويتقوى بالقدوة، ويتهذب بالمراجعة. وهو - قبل ذلك وبعده - عبادة سلوكية لا يلتفت إليها كثيرون، فالله سبحانه لم يربط الصلاح بالظاهر الخارجي فقط، بل بالنية واللطف والرفق وحفظ المشاعر ورعاية الخاطر. ومن سار بهذه السجية، أحبه أبناؤه دون وعظ، واحترمه الناس دون مجاملة، ومشى في طرق الحياة وهو لا يترك وراءه شوكاً في القلوب ولا ضجيجاً في المجالس. فالذوق مرآتنا التي نرى بها أنفسنا قبل أن يرانا الآخرون، وبقدر ما نهذبها نهذب علاقاتنا وملامح أيامنا. ومن جعل للذوق مقاماً في سلوكه، عاش أخف على الأرواح، وأقرب إلى القلوب، وأجمل في الذاكرة، لأن الجمال الحقيقي يكمن في ما يتركه الإنسان في نفوس الأخرين.