في بيئة العمل الحديثة، لم يعد السؤال عن الكفاءة وحدها كافيا، بل عمن يزكِّي تلك الكفاءة. فبينما كانت “الواسطة” في الماضي تُفتح بها الأبواب، أصبحت اليوم تُغلق بها الثقة. لم يعد الطريق إلى الوظيفة معبّداً بالمجاملات، بل بالجدارة التي يمكن التحقق منها. فقد تغيّر المشهد المهني في السعودية، وصار التمييز بين الواسطة والتوصية المهنية مقياسا لنضج السوق وعدالته. التوصية المهنية ليست مجاملة ولا ممرا خلفيا، بل انعكاس لسمعة اكتُسبت عبر الممارسة. إنها رأي صادق يكتبه من عرفك في الميدان، لا من سمع باسمك في مناسبة عابرة. فالتوصية الحقيقية تُبنى على تجربة، وتعبّر عن الالتزام والانضباط واحترام بيئة العمل، وهي تلك الجوانب التي لا تظهر في المقابلات ولا تُقاس بالشهادات. ولأنها تُمنح بعد معرفة وثقة، فهي تأتي كتتويج لمسار مهني، لا كاختصار له. وعلى النقيض، تعتمد الواسطة على العلاقات الشخصية لا على القيمة الفعلية. وقد تفتح بابا سريعا لكنها تترك وراءها شكوكا طويلة، لأن الموقع الذي يُنتزع بالعلاقات يفقد قيمته عند أول اختبار حقيقي للكفاءة. ومع مرور الوقت، لم تعد هذه الصورة مقبولة كما كانت. فقد قادت وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية تحولا حقيقيا في ثقافة التوظيف، عبر مبادرات ومنصات رقمية عززت العدالة والشفافية، حيث لم تعد القرارات تُبنى على المعرفة الشخصية، بل على مؤشرات الأداء والسلوك المهني. ومع انتشار المقابلات السلوكية والاختبارات الفنية، أصبحت الكفاءة وحدها الطريق الآمن إلى الفرص، وصار من السهل أن تُكشف المجاملة، لأن نتائجها لا تصمد طويلا أمام أدوات التقييم الحديثة؛ وهكذا تقلّصت مساحة الواسطة لأن بيئة العمل ذاتها لم تعد تتساهل مع المجاملة، بل ترى فيها خطرا على سمعتها قبل أن تكون خطرا على نتائجها. لقد تغير الوعي العام تجاه مفهوم “المعرفة” المهنية. فالفرق بين التوصية والواسطة لم يعد خفيا كما في السابق، إذ تفصل بينهما منظومة قيم كاملة. الواسطة تقايض العدالة بالانتماء، أما التوصية فتعزّز الثقة بالمصداقية. الأولى تمنح فرصة لا تُستحق، والثانية تذكّر بسمعة تستحقها. وفي زمن أصبحت فيه السمعة المهنية قابلة للقياس والتوثيق، لم يعد أحدٌ قادرا على الاختباء خلف “فلان يعرف فلان”. فكل أداء ضعيف يترك أثره العلني، وكل إنجاز حقيقي يجد طريقه للضوء. ولهذا، أصبحت المؤسسات أكثر استعدادا لرفض الواسطة من أجل حماية نزاهتها؛ فالثقة المهنية اليوم تُعد رأس مال حقيقي، تُبنى عليه القرارات وتُحفظ به السمعة. لكن السؤال الأهم هو: من أين تأتي هذه الثقة؟ التوصية الحقيقية لا تُطلب، بل تُكتسب. إنها ثمرة سلوك متكرر يثبت أن صاحبها هو الشخص ذاته في الحضور والغياب، وأن مهاراته الناعمة بالمستوى المناسب واللائق، هذه التفاصيل الصغيرة هي التي تشكل الصورة الكبيرة لسمعة الفرد المهنية، وهي الجوانب التي يصعب على أخصائي التوظيف قياسها في المقابلات وتشكل له الهاجس الأكبر. وهكذا فإن كل موقف، وكل التزام، وكل تعامل راق يُضاف بصمت إلى رصيد الثقة الذي يتحدث عن صاحبه عندما لا يكون حاضرا. ومن هنا، تصبح السمعة المهنية أهم من أي ورقة توصية، لأنها الدليل الذي يسبق الاسم في كل قائمة ترشيح. إن أجمل ما في التحول الذي نعيشه اليوم هو أن السوق السعودي بات أكثر عدلا في منح الفرص وأكثر وعيا بقيمة الكفاءة. لم يعد السؤال “من تعرف؟” بل “ماذا تعرف، وكيف تثبت أنك تعرف؟”. إنها نقلة من ثقافة الأبواب المغلقة إلى ثقافة النوافذ المفتوحة، حيث الأداء هو اللغة الوحيدة المفهومة. لقد تراجعت الواسطة لأن الكفاءة باتت تتكلم بوضوح، ولأن المؤسسات لم تعد بحاجة إلى المجاملة كي تملأ مقعدا، بل إلى الكفاءة كي تضمن بقاءها. الواسطة قد تمنحك موقعا، لكنها لا تضمن بقاءك فيه. أما التوصية المهنية الصادقة، فهي لا تُشترى، بل تُبنى. لذلك، احرص أن تكون سيرتك هي من يتحدث عنك، لا أحد سواها. ففي زمن يُقاس فيه التقدير بالأثر، لن تحتاج إلى واسطة حين تكون أنت الدليل. * مستشار موارد بشرية / مدير تنفيذي