مصيون… حين تعلن الجزيرة العربية عن حضارتها الأولى.

في عمق الشمال الغربي من المملكة العربية السعودية، وتحديدًا في محيط مدينة تبوك، ارتفع صوت التاريخ من تحت الرمال، ليكشف عن سرّ دفين ظلّ مطويًا لآلاف السنين. هنا، في موقع مصيون الأثري، لم يعد الحديث مقتصرًا على بقايا حجرية أو أطلال مهملة، بل عن أقدم مستوطنة معمارية موثقة في الجزيرة العربية، تعود إلى أكثر من عشرة آلاف عام، وتضع المملكة في قلب الخريطة العالمية لفهم بدايات الحضارة الإنسانية. لقد أدرج مصيون في السجل الوطني للآثار منذ عام 1978، لكن قيمته لم تتضح إلا في السنوات الأخيرة، حين بدأت هيئة التراث السعودية بالتعاون مع جامعة كانازاوا اليابانية أعمال تنقيب علمية منظمة منذ ديسمبر 2022. ومع توالي المواسم الأثرية، تكشّف المشهد شيئًا فشيئًا: بيوت حجرية مشيّدة بالجرانيت المحلي، دوائر معمارية صغيرة، ممرات تقود إلى مواقد للطهي والتدفئة، مخازن بدائية لحفظ الغلال والمؤن. في تلك التفاصيل البسيطة، تكمن بذور التحول التاريخي من حياة الترحال إلى حياة الاستقرار. ولم يكن سكان مصيون يعيشون في عزلة، فقد وجدت أدوات حجرية دقيقة مثل رؤوس السهام والسكاكين والمطاحن، إلى جانب حُليّ وزخارف صنعت من الكوارتز والأمازونيت، وأصداف بحرية جُلبت من السواحل البعيدة. هذه اللقى تحكي أن مجتمع مصيون لم يكن أسير حاجاته المعيشية فقط، بل انفتح على التبادل مع الآخرين، واهتم بالزينة والرمزية، فجمع بين البقاء والذوق، بين المادة والروح. لكن الوجه الأعمق لهذا الاكتشاف جاء من القبور. فقد أظهرت دراسة علمية نُشرت في Asian Journal of Paleopathology أن سكان الموقع مارسوا طقوسًا جنائزية متنوّعة، شملت الدفن الأولي للجثامين الكاملة، والدفن الثانوي الذي يُعاد فيه ترتيب العظام ودفنها من جديد، وأحيانًا وضعت أدوات أو زخارف بجوار الموتى. هذه الطقوس تكشف عن وعي روحي مبكر، وعن تصورات متقدمة عن الموت والحياة الأخرى، وتؤكد أن الإنسان الذي عاش هنا لم يكن مجرد صياد متنقل، بل فرد في مجتمع له ذاكرة ورمزية وطقوس. وإذا وضعنا مصيون في سياق المقارنات العالمية، ازدادت قيمته وضوحًا. ففي وادي النيل لم تبدأ ملامح القرى الزراعية الأولى إلا في الألفية الثامنة قبل الميلاد، لتتطور لاحقًا إلى حضارة فرعونية عظيمة. وفي بلاد الرافدين، بدأت المجتمعات المستقرة بالظهور في الألفية التاسعة قبل الميلاد، ممهّدة الطريق لمدن سومر وأكد وبابل. أما الجزيرة العربية، فتقول لنا من خلال مصيون إنها لم تكن بعيدة عن هذا التحول العالمي، بل شاركت فيه باكرًا، وأسهمت في صياغة ملامح الحضارة الإنسانية منذ فجر التاريخ. إن ما حدث في مصيون يضع المملكة في مصاف المناطق الأولى التي شهدت الانتقال من البداوة إلى الاستقرار، ومن العيش الغريزي إلى التنظيم الاجتماعي والرمزي. ولعل ما يضفي على هذا الاكتشاف بعدًا إضافيًا أنه يأتي في لحظة تاريخية يعيش فيها الوطن تحولات كبرى. فالمملكة اليوم، في ظل رؤية 2030، لا تنظر إلى الماضي كصفحة منتهية، بل كرصيد حيّ يمد الحاضر بالقوة والمعنى. الرؤية جعلت الثقافة والتراث إحدى ركائزها الرئيسة، وأدركت أن الهوية الوطنية تتجدد حين تتصل بجذورها العميقة. لذا فإن ما يجري في العلا وحِسْمَى وعينونة ومصيون ليس مجرد تنقيب أثري، بل مشروع وطني لبناء صورة متكاملة عن المملكة كأرض حضارات، تجمع بين التاريخ العريق والمستقبل الطموح. إن مصيون اليوم يقدّم للعالم برهانًا على أن المملكة ليست فقط قوة اقتصادية وسياسية، بل قوة حضارية ثقافية، تمتلك جذورًا تضرب في تربة عمرها عشرة آلاف عام. فهو يكشف أن الإنسان الأول الذي عاش هنا لم يكن أقل شأنًا من معاصريه في وادي النيل أو بلاد الرافدين، وأن الجزيرة العربية كانت مسرحًا من مسارح الحضارة الإنسانية الكبرى. وما يفعله السعوديون اليوم من حفظ هذا الإرث وتقديمه للعالم ليس إلا استكمالًا لمسيرة بدأت منذ آلاف السنين. وهكذا يتعانق الماضي بالحاضر، وتلتقي ذاكرة مصيون بحلم رؤية 2030، ليظل الوطن أرضًا تُنبت الحضارة، وتروي للعالم قصة إنسان صنع أول بيت، وأوقد أول موقد، ودفن موتاه وفق طقوسٍ مفعمة بالمعنى، ثم امتدت سلالته لتبني اليوم وطنًا طموحًا يقود المستقبل. إنها قصة المملكة التي تبدأ من الحجر القديم ولا تنتهي عند ناطحات السحاب الحديثة، لأنها في كل مراحلها كانت وما تزال أرض الإنسان والحضارة