تمدد حجاب الخصوصية

كانت  البيوت سابقا حصنًا منيعًا، جدرانه تحفظ أسراره، وأبوابه تصون ما يجري داخله. أن تشارك الآخرين تفاصيل طعامك أو لحظات سعادتك اوغضبك كان أمرًا مستغربًا، بل قد يُعد من خوارم المرؤة  وخرقًا لحرمة المكان واعتداءً على كرامة أهله. مجرد فكرة أن يلتقط ضيفك صورة من داخل منزلك، او ان يوقفك صديقك عن شرب كوب قهوتك  حتى يصور اللحظة أو أن يوثق أحد افراد العائلة شجار عائلي عابر بينهم كانت كافية لتثير الغضب والاستنكار. لكن شيئًا ما تغيّر.اليوم فأصبح  ما كان “عيبًا” بالأمس عند الكثير يعتبر مجرد لقطة عابرة على شاشة صغيرة، وما كان “مستحيلًا” صار عاديًا بل مستحبًا عند البعض وزادت مساحة المعروض حتى بدأت تدخل مناطق محظورة أخلاقيا واجتماعيا وحتى دينيا احياناً بفضل السوشيال ميديا، فتحوّل الحياء والخجل عند البعض  إلى جرأة، وتحولت الخصوصية إلى سلعة، وتحولت أدق تفاصيل الحياة إلى مادة للتسويق والإعلان  أو وسيلة لجذب الأنظار وزيادة أعداد المتابعين والمعجبين .  لقد تمكنت هذه المنصات من تدجين وعينا، خطوة بعد خطوة، حتى جعلتنا نبتسم للكاميرا في أشد لحظات ضعفنا. ولم تعد الخصوصية مساحة نحرسها، بل أصبحت خيارًا نتفاوض عليه مع جمهور من الغرباء. وأصبح الطعام الذي وُجد ليُؤكل، يُعرض أولًا على العدسات قبل أن تلمسه الأيدي. وأصبحت البيوت التي شُيدت لتستر أهلها تعرض أدق تفاصيلها كأنها فضاء عام  حتى وصل ببعضها الى الغرف الداخلية.  إنها ليست مجرد مشاركة عفوية؛ بل ثقافة جديدة تعيد صياغة علاقتنا بأنفسنا وبالآخرين. أصبح البعض  يرى اللحظة لا كما هي، بل كما ستبدو إذا صُورت ونُشرت. صارت المشاعر والأحداث تُقاس بعدد الإعجابات والتعليقات وتعاد هندستها  بما يناسب الفانزات وكأن قيمة ما نعيشه لا تتحقق إلا إذا شاهده الآخرون وشاركونا فيه  السوشيال ميديا لم تكتفِ بنزع  حجاب خصوصياتنا، بل أعادت رسم الحدود بين العام والخاص، بين الحميمي والعلني، بين ما نحياه وما نعرضه. وكلما ازدادت المتابعات، تضاءلت مساحة المحضور، وكلما اتسعت دائرة النشر، ضاقت دائرة الأسرار.  وقد تنبهت الجهات المختصة في كثير من الدول لهذه السطوة  الشرسة لمنصات وتطبيقات السوشل ميديا على الحياة العامة والخاصة  فسنت القوانين وحددت أطر المسموح والممنوع للنشر بما يحد من انتهاك الخصوصيات والحريات الشخصية ويحافظ على القيم الأخلاقية للمجتمع، كما ألزمت المشاهير بالحصول على التراخيص اللازمة عند الإعلان او الترويج  مع المراجعة  والتحديث المستمر لهذه الانظمة، ومنها ما قامت به الهيئة العامة لتنظيم الاعلام لدينا  بنشر قائمة محدثة بالمحظورات بأنواعها والتي من شأنها إعادة ضبط الإطار العام  للنشر والتي تشمل عدة نقاط على مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي التقيد بها، ومنها: عدم استخدام اللغة المبتذلة أو التباهي بالأموال والسيارات في المحتوى الإعلامي حيث يُعد ذلك مخالفة صريحة، عدم الاستهزاء او التنمر بالآخرين، او كشف الخصوصيات دون استئذان ، و منع إثارة النعرات القبلية او المساس بالثوابت الدينية  والقيم الاجتماعية واستغلال الأطفال بأي شكل يمس بكرامة الطفل ، ومنع الظهور. بلباس خادش للحياء او مخالف لتقاليد وأعراف المجتمع. ولاشك ان هذه الضوابط ستسهم في اعادة التفكير في ما يقدمه المشاهير ومستخدمي وسائل التواصل والحد من المحتوى المخالف      ومع كل ماسبق، فلاشك ان للسوشيال ميديا جوانب إيجابية كثيرة، من نواحي تثقيفية وتعليمية وسرعة نقل المعلومات والاخبار  والتجارب المفيدة في شتى المجالات  الطبية والعلمية  والسياحية وغيرها التي تعود بالنفع متى ما أحسن استخدامها  ويبقى السؤال مفتوحًا : هل نحن حقًا من يختار أن يفتح نافذة حياته على الملأ او يجعل من نفسه أسير متابعة محتوى هابط لا يضيف له ، أم أننا مجرد أسرى خوارزميات صنعت لنا وهمًا بأن قيمتنا تُقاس بما نعرضه وبما نحصده من لايكات وإعجابات  وبما نتابعة من محتوى يتدفق علينا كالسيل بدون تدقيق او تحقق ، لا بما نعيشه من لحظات صادقة بدون تجميل لنعجب بها الأخرين.